الشهيد الصدر والاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
العنوان: الشهيد الصدر والاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
الكاتب/الكتّاب:
رضا حسن الغرابي -
-
-
-
الملخّص
Abstract:
البحث الكامل
المقدمة
يُعدّ السيد الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس سره ) واحداً من أبرز المفكرين المسلمين الذين أدوا على أكمل وجه ممكن وظيفتهم في إبراز وتظهير ما هو منجز وموضوع من رؤى الإسلام حول مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية, كما يدل على ذلك – بشكل واضح – تراثه الفكري الثر, ولا سيما كتابه ” اقتصادنا ” الذي كان حصيلة لجهود فكرية مضنية وجد السيد الشهيد الصدر نفسه مدعوا لبذلها انطلاقا من مسؤوليته في أداء وظيفته كمفكر إسلامي في إبراز وتظهير الاقتصاد الاسلامي المنجز والموضوع, وتمييزه بوجهه الحقيقي, وتحديده بهيكله العام, والكشف عن قواعده الفكرية, وإبرازه بملامحه الأصيلة.
وعلى الرغم منّ أنّ كتاب ” اقتصادنا ” كان محاولة تأسيسية وبدائية على حد تعبير السيد الشهيد الصدر إلا أنّها فتحت الطريق أمام المفكرين والباحثين لمواصلة ما بدأه وإتمام مشروعه في الكشف عن سائر جوانب نظرية الإسلام في الاقتصاد, لكن المؤسف في الأمر أنّ هذه المحاولة لم تشفع بمحاولة مكملة لها, بل أنّها لم تجد من يتعهدها بالرعاية الكافية.
ونحن حينما نقول أنّ محاولة السيد الشهيد لم تجد من يتعدها بالرعاية الكافية, لا نريد من هذه الرعاية أن تتجسد بمجرد الاشارة إلى التعريف بهذه المحاولة من طريق الإشادة بها أو إعادة طبعها أو الاحتفاء بذكرى الشهيد الصدر رغم أهمية كل ذلك. فالشهيد الصدر لم يبذل جهوده في هذا الميدان لهذه الأغراض الثانوية, بل كان همه الاساس ينصب على إبراز رؤية الاسلام للحياة الاقتصادية والتدليل على مصداقيتها, والعمل على فتح المسارات التي تسمح بتطبيقها على أرض الواقع.
ولكن – بفضل الله ولطفه – لم تخل الساحة الإسلامية ممن أدرك أهمية التراث الفكري لأعلامنا الأجلاء, ودعا إلى ضرورة دراسته, والاستفادة منه في مختلف جوانب الحياة. ولقد كانت مؤسسة ” دار الإسلام الخيرية ” إحدى أبرز المؤسسات الإسلامية في هذا المجال, فمنذ سنوات خصصت هذه المؤسسة المباركة جائزة سنوية ( جائزة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر للتميّز والإبداع ) استنهضت من خلالها همم الباحثين إلى الاهتمام بالتراث الفكري للسيد الصدر, وفاء لدمائه الزكية الطاهرة التي بذلها من أجل الدين والوطن, وإسهاماً منها في الاستفادة من هذا الفكر النير في مختلف جوانب الحياة الإسلامية.
وانطلاقا من الدعوة الكريمة التي وجهتها هذه المؤسسة إلى الكتاب والباحثين والمثقفين الراغبين بالمشاركة في الدورة الرابعة لتلك الجائزة من خلال تقديم بحوث حول موضوع ( المشكلة الاقتصادية في العراق ودراسة أسبابها ومحاولة وضع الحلول والمعالجات المناسبة لها في ضوء التراث الفكري الفذ للسيد الشهيد الصدر ), يسّر الباحث أن يلبّي هذه الدعوة الكريمة من خلال تقديم بحثه المتواضع, والذي جاء تحت عنوان ( الشهيد الصدر والاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر ).
تقتصر جهود الباحث في البحث الحالي على الأمور الآتية :
الأمر الأول : تحديد الملامح الأساسية للاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر – قدس سره –.
الأمر الثاني : المتابعة الاستقصائية – بقدر الإمكان – لمعطيات الفكر العالمي المعاصر على المستوى الاقتصادي والمستويات ذات الصلة من مصادرها المعتبرة.
الأمر الثالث : التدليل على انسجام معطيات الفكر العالمي المعاصر مع أطروحات الاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر بشكل موضوعي وحيادي وبعيدا التعسف والانحياز.
وبودي أن أشير أيضا أن البحث الحالي – بحسب طبيعة مشكلته وفرضيته وهدفه – سوف يغلب عليه طابع الاقتباس, ذلك أنّ تحديد الملامح الأساسية للاقتصاد الاسلامي عند الشهيد الصدر لا بد وأن يُدلَل عليها من نصوص السيد الصدر نفسه, كما أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر لا بد وأن تستقى من مصادرها وأنْ يشار إلى هذه المصادر بكل الأمانة.
وأخيرا : ينقسم هذا البحث إلى ثلاثة فصول :
الفصل الأول : وقد خصصناه للتعريف بالبحث.
الفصل الثاني : وقد خصصناه لدراسة موضوع البحث في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : وقد خصصناه لدراسة الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها نظرية الشهيد الصدر فـــــــي الاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر.
المبحث الثاني : وقد خصصناه لدراسة السمات العامة للاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر.
المبحث الثالث : وقد خصصناه لدراسة المبادئ الأساسية العامة للاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر.
الفصل الثالث : وقد خصصناه لعرض أهم نتائج البحث والتوصيات.
الفصل الأول : التعريف بالبحث
مشكلة البحث :
تكمن المشكلة الاقتصادية في بلدنا العزيز في أنّ الدولة رغم توفرها على الإمكانات الهائلة والمتنوعة التي تتيح لها أن توفر لمواطنيها حياة رفاهية إلا أنّها عاجزة عن فعل ذلك؛ لأنّها لا تدير الحياة الاقتصادية وفق منهج اقتصاديّ ملائم, ولا يعود السبب في ذلك إلى عدم وجود مثل هذا المنهج, فنحن نعلم أنّ المنهج الاقتصادي الإسلامي قادر على إدارة الحياة الاقتصادية في بلدنا العزيز بأفضل صورة ممكنة, بل أنّ السبب يكمن في عدم وجود إرادة سياسية جادة لتفعيل هذا المنهج.
ونحن حينما نبحث عن الأسباب التي تجعل الإرادة السياسية مترددة في تفعيل المنهج الاقتصادي الاسلامي في إدارة الحياة الاقتصادية سوف نجد العديد من الأسباب التي تقف وراء ذلك الأمر, ولعل من أهم هذه الأسباب هو التصور الذي تغذيه الأجندات الخارجية في أنّ الاسلام لا يمتلك رؤية اقتصادية واضحة, وأنّه غير قادرٍ على إدارة الحياة الاقتصادية بشكل سليم على أساس أنّ الاقتصاد الاسلامي لا يمكنه مواكبة التطورات الحديثة التي يشهدها العالم المعاصر, لذلك تحاول الدولة اللجوء إلى تبني المناهج الأوربية للتنمية دون تخطيط مسبق ودون أن تعي أن هذه المناهج غير قادرة على الالتحام بالأمة؛ بسبب الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار, والذي يتسم بالشك والاتهام والخوف نتيجة لتاريخ مرير وطويل من الاستغلال والصراع, فضلا عن إنّ المناهج الأوروبيّة بحكم جذورها الثقافية التي تستمد منها مبادئها لا يمكن تطبيقها في البلدان الاسلاميّة دون أن يطفو إلى السطح تناقضا بين هذه المناهج والثقافة السائدة في البلدان الاسلامية – خاصة ما يتعلق منها بالعقيدة الدينية لتلك البلدان.
هكذا يتضح أنّ السبب وراء تبني الدولة لمناهج اقتصادية غير ملائمة وعدم تفعيلها للمنهج الاقتصادي الاسلامي رغم ملائمته يكمن في التصور الذي يرى أنّ المناهج الاقتصادية الغربية أقدر من غيرها على إدارة الحياة الاقتصادية بشكل سليم, ولكن التدقيق في معطيات الفكر العالمي المعاصر على المستوى الاقتصادي والمستويات ذات الصلة تبيّن لنا أنّ هذا التصور غير دقيق وغير موضوعي, وأنّ الاقتصاد الاسلامي أقدر من غيره في تشخيص المشكلة الاقتصادية ووضع الحلول المناسبة لها.
وعلى ضوء ما تقدم يمكن بلورة مشكلة البحث الحالي في السؤال الآتي :
هل أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر على المستوى الاقتصادي والمستويات ذات الصلة تؤكّد على صواب أطروحات المنهج الاقتصادي الاسلامي وفاعليته في معالجة المشكلة الاقتصادية ؟
أهمية البحث :
تكمن أهميّة البحث الحالي في أنّه أعاد تظهير جوانب مهمة وأساسية من نظرية الشهيد الصدر في الاقتصاد الإسلامي معضدا إياها بمعطيات الفكر العالمي المعاصر, مما يمنح نتائج هذا البحث وتوصياته قدرا أكبر من الموضوعية؛ لكونها ترتكز, من جهة, على تعاليم الإسلام ومفاهيمه, ومن جهة أخرى ترتكز على معطيات الفكر العالمي المعاصر التي تؤكد تلك التعاليم والمفاهيم.
فرضيّة البحث :
يفترض البحث الحالي أنّ الدراسة الجادة لمعطيات الفكر العالمي المعاصر ( وقائع وحقائق ودراسات جادة ومنصفة ) على المستوى الاقتصادي تنتهي بنا إلى نتائج تبيّن مدى دقة الاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر في تشخيص المشكلة الاقتصادية وتحديد أسبابها, ومدى دقته في وضع الحلول والمعالجات المناسبة لها.
هدف البحث :
يهدف البحث الحالي إلى
أولا : التنبيه والتأكيد على أن معطيات الفكر العالمي المعاصر تثبتُ أنّ مجتمعنا – شأنه شأن أي مجتمع آخر – لا يمكنه أن يشخص مشاكله الاقتصادية ويعالجها بشكل سليم بمناهج غريبة عن ثقافته, وأنّ عمليّة التنميّة الاقتصاديّة هي عمليّة يجب أن يشترك فيها ويساهم بلون وآخر المجتمع كله. وبذلك تكون عمليّة تبني الدولة للمنهج الاقتصادي الاسلامي في إدارة الحياة الاقتصادية في المجتمعات الاسلامية هي عمليّة ضرورية وليست اختيارية.
ثانيا : التنبيه والتأكيد على أنّ التأمل الدقيق في معطيات الفكر العالمي المعاصر تثبت – وبشكل واضح – مدى دقة الاقتصاد الاسلامي وقدرته في تشخيص المشكلة الاقتصادية ومعالجتها بشكل سليم. وبذلك يثبت أنّ المشكلة الاقتصادية سوف لن تجد حلّها إلا على ضوء مفاهيم الاسلام ومبادئه.
الفصل الثاني : معطيات الفكر العالمي المعاصر والاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر
المبحث الأول : دراسة الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها نظرية الشهيد الصدر فـــــــي الاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر.
الفرضية الأولى : النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي والمركب الحضاري الوحيد الذي ينبغي على الأمة الإسلامية أن تعالج مشكلتها الاقتصادية ضمنه
يعتقد السيد الصدر – قدس سره – : (( إنّ النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي والوحيد الذي يجب على الأمة الاسلامية أن تحقق حياتها ضمنه وتنشئ كيانها على أساسه؛ فالأمة الاسلامية لن تجد إطاراً تضع ضمنه حلولها لمشاكل التخلف الاقتصادي سوى إطار النظام الاقتصادي في الإسلام )) ( 1 )
لم تكن هذه الفرضية مجرد ادعاء مبني على تحيّز عقائدي, بل كانت تشخيصا ينطلق من تحديد دقيق للشرط الأساس الذي ينبغي أنْ يتوفر عليه أي منهج اقتصادي مقترح لمعالجة المشكلة اقتصادية التي تعاني منها الأمة الاسلامية, فالسيد الصدر يعتقد انّ أي منهج اقتصادي مقترح لا يمكنه معالجة المشكلة الاقتصادية لأيّ أمة ما لم يأخذ بعين النظر الظروف الموضوعية لهذه الأمة وتركيبها النفسي والتاريخي حتى يكون قادرا على الالتحام بها؛ لأنّ هذه الأمة هي مجال التطبيق لذلك المنهج, فمن الضروري أن يدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه ليلاحظ مدى فاعلية كلّ منهج لهذا التطبيق. ففاعليّة المنهج لا ترتبط بالضرورة بطبيعة المنهج الاقتصادي لكي تتوفّر تلك الفاعلية متى اتبع نفس هذا المنهج, إذ قد تكون الفاعلية ناتجة عن المنهج باعتباره جزءا من كل مترابط وحلقة من تاريخ, فإذا عزل هذا المنهج عن إطاره وتاريخه لم تكن له تلك الفاعلية ولا تلك الثمار. ( 2 )
من هنا يتضح أنّ من الخطأ معالجة المشكلة الاقتصاديّة التي تعاني منها الأمّة الإسلامية من طريق تبني المناهج الأوربيّة للتنمية, لأنّ هذه المناهج غير قادرة على الالتحام بالأمّة. وذلك لعدّة أسباب أهمها : الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار, والذي يتسم بالشك والاتهام والخوف نتيجة لتاريخ مرير وطويل من الاستغلال والصراع. ( 3 ) والسبب الآخر والأهم هو : إنّ المناهج الأوروبيّة بحكم جذورها الثقافية التي تستمد منها مبادئها لا يمكن تطبيقها في البلدان الاسلاميّة دون أن يطفو إلى السطح تناقضا بين هذه المناهج والثقافة السائدة في البلدان الاسلامية – خاصة ما يتعلق منها بالعقيدة الدينية لتلك البلدان – ذلك أنّ هذه الثقافة : (( تشكل قوة تعيش داخل العالم الإسلامي بقطع النظر عن أيّ تقييم لها؛ فإنّ هذه القوة مهما قدرنا لها من تفكك وانحلال نتيجة لعمل الاستعمار ضدها في العالم الإسلامي لا يزال لها الأثر الكبير في توجيه السلوك وخلق المشاعر وتحديد النظرة نحو الأشياء.
وقد عرفنا قبل لحظات أنّ عمليّة التنميّة الاقتصاديّة ليست عمليّة تمارسها الدولة وتتبناها وتشرّع لها فحسب, وإنّما هي عمليّة يجب أن تشترك فيها وتساهم بلون وآخر الأمة كلها. فإذا كانت الأمة تحس بتناقض بين الإطار المفروض للتنميّة وبين عقيدة لا تزال تعتز بها وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة فسوف تحجم بدرجة تفاعلها مع تلك العقيدة عن العطاء لعمليّة التنميّة والاندماج في إطارها المفروض )). ( 4 )
دراسة الفرضية الأولى على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
لقد أصبحت شعوب العالم المعاصر أكثر وعيا ومعرفة بالفوارق الثقافية التي تُمايز فيما بينها, وقد بلغ بروز دور الثقافة المتزايد في النظام العالمي حدا دفع “صموئيل هنتنغتون ” إلى التأكيد على أنّ العالم يتحرك نحو عصر صدام الحضارات، حيث لا تستمد الشعوب هويتها الأساسية من انتمائها الآيديولوجي، كما حدث أيام الحرب الباردة، بل من إرثها الثقافي تحديدا. ومن ثم فإن الصراعات المستقبلية لن تنشب على الأرجح بين الفاشية والاشتراكية والديمقراطية بل بين التجمعات الثقافية الكبرى في العالم ( الحضارات الغربية والإسلامية والكونفوشيوسية واليابانية والهندوسية وغيرها ). من الواضح أنّ ” هنتنغتون ” محق تماما في القول إن الفوارق والاختلافات الثقافية سوف تهيمن من الآن وصاعدا، وإنّ على المجتمعات كلها إبداء اهتمام أكبر بالثقافة عند تعاملها مع المشكلات الداخلية ومشكلات العالم الخارجية على حد سواء. لكن حجته تبدو أقل إقناعا حين تؤكد أن الفوارق الثقافية سوف تكون بالضرورة مصدر الصراع في المستقبل، إذ كثيرا ما أدى التنافس بين الحضارات إلى المثاقفة وحدوث تغيرات إيجابية وخلاقة. ( 5 )
ولعل الاقتصاد – بحسب فرنسيس فوكوياما – : هو الجانب المحوري في حياتنا المعاصرة الذي تمارس فيه الثقافة تأثيرا مباشرا في الأوضاع الداخلية للمجتمع والنظام العالمي في آن معا. ومع أنّ النشاط الاقتصادي لا يمكن فصله عن مجمل النشاطات الاجتماعية والسياسية، إلا أن الخطاب الاقتصادي المعاصر يشجع انتشار نزعة خاطئة تعد الاقتصاد قطاعا مستقلا يتمتع بقوانينه الذاتية بمعزل عن باقي قطاعات المجتمع. ومن هذا المنظور، يبدو الاقتصاد حيزا آنيا يجتمع فيه الأفراد مرحليا لإرضاء حاجاتهم وإشباع رغباتهم الأنانية قبل العودة إلى ممارسة حياتهم الاجتماعية والحقيقية. ولكن الاقتصاد في أي مجتمع يشكل واحدا من أكثر مجالات التواصل الاجتماعي والإنساني دينامية وحيوية، إذ يكاد لا يوجد شكل من أشكال النشاط الاقتصادي يمكن الاستغناء فيه عن التعاون والتكافل الاجتماعي، بدءا بإدارة مصبغة صغيرة لتنظيف الملابس وانتهاء بتصنيع أضخم الدارات الإلكترونية المتكاملة. ( 6 )
إذن، يمثل النشاط الاقتصادي جانبا محوريا من الحياة الاجتماعية ويتأثر تأثرا مباشرا بجملة القيم والمعايير والالتزامات الأخلاقية وغيرها من العادات والأعراف التي تحدد بمجموعها شكل المجتمع. ( 7 )
إنّ الحياة الاقتصادية – وكما أدرك آدم سميث – جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، ولا يمكن فهمها بمعزل عن جملة العادات والتقاليد والأعراف والقيم الأخلاقية السائدة، أو باختصار، لا يمكن فصل الاقتصاد عن الثقافة في المجتمع. ولذلك كله تبدو الحوارات الاقتصادية المعاصرة قاصرة وعقيمة حين تسقط من حسابها هذه العوامل الثقافية. ( 8 )
يقول ” فوكوياما ” : (( إن مجمل الانتصار الفكري الذي حققته نظرية السوق الحر في السنوات القليلة الماضية ترافق مع كثير من الغطرسة والغرور. إذ لم يكتف اقتصاديو الكلاسيكية الجديدة بما تحقق لهم من أمجاد، بل اعتقدوا أنّ المنهج الاقتصادي الذي توصلوا إليه يمنحهم الأدوات الفكرية اللازمة لإقامة ما يشبه العلم الكوني للإنسان. أكد هؤلاء أنّ قوانين علم الاقتصاد مطلقة ويمكن تطبيقها في كل زمان ومكان. كما آمنوا بأنهم على صواب أيضأ بالمعنی الإبستمولوجي الأعمق : إذ استطاعوا، عبر المنهجية الاقتصادية، اكتشاف حقيقة جوهرية عن الطبيعة البشرية تسمح لهم بتفسير مظاهر السلوك الإنساني كلها تقريبا.
تكمن مشكلة اقتصاد الكلاسيكية الجديدة في تجاهل بعض الركائز الأساسية التي اعتمد عليها الاقتصاد الكلاسيكي ذاته. فقد اعتقد ” آدم سميث “، الاقتصادي الكلاسيكي الأول، بأنّ البشر تدفعهم رغبة أنانية لتحسين أوضاعهم، ولكنه ما كان ليؤيد فكرة اختزال النشاط الاقتصادي في السلوك العقلاني الهادف إلى تحقيق الحد الأقصى من المنفعة الذاتية، والحقيقة أنّ كتابه الرئيس الآخر إلى جانب ثروة الأمم كان نظرية العواطف الأخلاقية الذي صور فيه الدافع الاقتصادي على أنه معقد جدا ومتجذر في صلب العادات الاجتماعية والقواعد الأخلاقية الأوسع … ولهذا يحتاج الخطاب الاقتصادي المعاصر إلى استعادة بعض من غنى وثراء الاقتصاد الكلاسيكي الذي يتناقض مع محدودية الكلاسيكية الجديدة وضيق أفقها، وذلك بأن يأخذ في اعتباره كيفية صياغة الثقافة لمظاهر السلوك الإنساني كلها، ومنها السلوك الاقتصادي، بطرق حاسمة عديدة )). ( 9 )
من هنا يتضح أنّ الأمة الاسلامية بحكم ثقافتها الاسلامية لا يمكنها أن تحقق حياتها الاقتصادية إلا في إطار النظام الإسلامي؛ ولأسباب تعود إلى جوهر التقاليد الدينية يمكننا القول – كما يعبر خوسيه كازانوفا – أنه من الصعب التوفيق بين الثقافة الاسلامية واقتصاد السوق. ( 10 )
الفرضية الثانية : النظام الإسلامي هو الإطار الوحيد الذي ينبغي على الإنسانية أن تعالج مشكلتها الاقتصادية ضمنه
يقول السيد الصدر – قدس سره – : (( والإنسانية على الصعيد البشري – وهي تقاسي أشد ألوان القلق والتذبذب بين تيارين عالميين ملغمين بقنابل الذرة والصواريخ ووسائل الدمار – لن تجد لها خلاصاً إلا على الباب الوحيد الذي بقي مفتوحاً من أبواب السماء, وهو الإسلام )). ( 11 ) فـ : (( الميزة الأساسية للنظام الإسلامي تتمثل فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة، وإحساس خلقي بها. والخط العريض في هذا النظام هو اعتبار الفرد والمجتمع معا، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن. وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والإحساس، فهو إما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات وأشد الأخطار، وإما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته؛ لوقاية المجتمع ومصالحه. فيشا الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته، والأفراد ونزعاتهم )). ( 12 )
دراسة الفرضية الثانية على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
سوف أبيّن هنا أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر تشير إلى ترجيح هذه الفرضية من خلال نقطتين, أبيّن في الأولى أنّ هناك وعي عالمي متزايد بأهميّة الدين ودوره الفاعل في كافة مجالات الحياة, وهذه النقطة تقربنا من صحة الفرضية بشكل كبير ( خاصة وأنّ الدين الاسلامي لا يتصادم مع الأديان الأخرى وإنّما هو امتداد ومصدق لها وخاتم ومهيمن عليها ) ولكنها لا تحسم صحتها تماما, باعتبار أنّ هذه النقطة تتحدث عن الدين في إطاره العام الذي يشمل جميع الأديان. بينما تتحدث الفرضية عن الدين في إطاره الخاص المتمثل بالدين الاسلامي. ولذلك سوف أبيّن في النقطة الثانيّة ما الذي يجعل هذه المعطيات ترجح أنّ الدين الاسلامي هو الإطار الوحيد الذي يمكن للإنسانية أن تعالج مشكلتها الاقتصادية ضمنه.
وهكذا سيتضح لنا من خلال النقطة الأولى أنّ العالم قد أدرك أهميّة ودور الدين في حلول مشاكله الاقتصادية, وأنّ الأنظمة الاقتصادية البشرية ليست قادرة بمفردها من دون الاستناد إلى الدين على إيجاد تلك الحلول, وسيتضح من خلال النقطة الثانية أنّ الاسلام هو الدين الذي يمكن أن تستند إليه البشرية للخلاص من مشاكلها الاقتصادية.
النقطة الأولى – إنّ المتتبع لمعطيات الفكر العالمي المعاصر يلاحظ بوضوح أنّ هناك عودة للدين واعتراف بدوره الفعال في المجتمع, ولا أدّل على ذلك من تبلور اتجاه ( ما بعد العلمانية ) الذي يؤمن بوجود حيوية مستمرة لأديان العالم, وأنّ لها قدرة كبيرة على التشكيل الثقافي في كل عصر, وأنّها إلى الآن لم تخسر هذه القدرة بالكامل. ( 13 ) وأنّ العقل الحديث سوف يتعلم فقط عندما يستطيع توضيح علاقته بالوعي الديني المعاصر. ( 14 )
يقول ( خوسيه كازانوفا ) : (( أصبح الدين عاما في الثمانينيات بمعنى مزدوج للكلمة. فقد دخل النطاق العام, وكسب بذلك رواجا. وفجأة، صارت جماهير متنوعة – من وسائل إعلام وعلماء اجتماع وسياسيين، وكذلك الجمهور الأوسع – تعير الدين انتباها. ويأتي هذا الاهتمام العام غير المتوقع من كون الدين، إذ فارق موقعه المحدد في النطاق الخاص، قد أقحم نفسه في المضمار العام للمنازعة الأخلاقية والسياسية، والأهم من ذلك أنّ أربعة تطورات برزت للعيان معا بالرغم من أنّ أحدها لا يمت ظاهريا إلى الآخر بصلة، وأضفت على الدين ذلك الرواج العالمي الذي حتّم إعادة تقويم موقعه ودوره في المجتمع الحديث. وكانت هذه التطورات الأربعة هي : الثورة الإسلامية في إيران، وصعود حركة ” تضامن ” في بولندة ، ودور الدين الكاثوليكي في الثورة السندينية وغيرها من الأزمات السياسية في أميركا اللاتينية، وعودة الأصولية البروتستانتية إلى الواجهة كقوة ضاغطة في السياسة الأمريكية )). ( 15 )
ويقول أيضا : (( إنّ الجديد المباغت في الثمانينيات لا يتمثل في نشأة الحركات الدينية الجديدة والتجربة الدينية والوعي الديني الجديد – وهي ظواهر الهبت مخيلة الباحثين الاجتماعيين والجمهور في الستينيات والسبعينيات – إنما يتمثل بالأحرى في قيام التقاليد الدينية باستعادة دورها في الشأن العام وتطويره، وهي التقاليد الدينية نفسها التي افترضت نظريات العلمنة أنها قد أصبحت هامشية وغير ذات شأن في العالم الحديث. وتتمحور هذه الدراسة حول مقولة أساسية مفادها أننا نشهد ظاهرة ” تعميم الدين في العالم الحديث “، وأعني بالتعميم أن التقاليد الدينية عبر العالم باتت ترفض القبول بالدور الهامشي والمخصخص الذي حددته لها نظريات الحداثة وكذلك نظريات العلمنة … وعلى نحو مماثل، ترفض المؤسسات والمنظمات الدينية أن ينحصر دورها في إطار العناية الرعوية بنفوس الأفراد وتواصل طرح الأسئلة حول العلاقات المتبادلة بين الأخلاقيات الخاصة والعامة … وتتمثل إحدى نتائج هذه المعارضة المتواصلة في بروز سيرورة إعادة تسييس مزدوجة ومترابطة للأديان الخاصة والنطاقات الأخلاقية من جهة وإعادة تعيير النطاقات الاقتصادية والسياسية العامة من جهة أخرى. وهذا ما أدعوه، في غياب تعبير أفضل، “تعميم الدين ”
ولا أعني أن تعميم الدين ظاهرة جديدة كل الجدّة، فمعظم التقاليد الدينية قاومت سيرورة العلمنة بالإضافة إلى الخصخصة والتهميش اللذين ينزعان لمواكبة هذه السيرورة، ولئن قبلت أخيرا هذه التقاليد بهذه السيرورة وتأقلمت مع البني المتميزة في العالم الحديث، فغالبا ما فعلت ذلك على مضض، أما الجديد و المستجد في الثمانينيات فكان الطابع المنتشر المتزامن لرفض البقاء ضمن إطار النطاق الخاص لتقاليد دينية مختلفة اختلاف اليهودية والإسلام، والكاثوليكية والبروتستانتية، والهندوسية، والبوذية ، في ” عوالم التنمية الثلاثة ” … فالأديان في العالم كله لا تلج النطاق العام ومضمار المعارضة السياسية للدفاع عن نطاقها التقليدي، كما فعلت في السابق، بل كذلك للمشاركة في معارك تحديد النطاقين الخاص والعام ورسم الحدود الحديثة بينهما، وبين النظام والكون، وبين الشرعية والأخلاقية، وبين الفرد والمجتمع، وبين الأسرة والمجتمع المدني والدولة، وبين الأمم والدول والحضارات والنظام العالمي.
بوسع المرء أن يستخلص أساسا عبرتين من الظاهرة الدينية في الثمانينيات : العبرة الأولى أن الأديان موجودة لتبقى، والعبرة الثانية والأهم أن الأديان سوف تظل على الأرجح تضطلع بأدوار عامة بارزة في البناء المتواصل للعالم الحديث. وتحملنا هذه العبرة الثانية بشكل خاص على إعادة التفكير منهجيا بالعلاقة بين الدين والحداثة، والأهم من ذلك، بالأدوار المحتملة التي قد تؤديها الأديان في النطاق العام للمجتمعات الحديثة )). ( 16 )
وفي السياق ذاته : (( تكشف نظريات هابرماس المتأخرة في دور الدين في الفضاء العمومي عن موقف إيجابي من الدين ودوره. فهو يؤكد فيها أنّ الدين يعرض صورا للحياة خالية من الشوائب وملهمة في آن. ويُرغّب أتباعه، ويحرضهم على أداء أفعال مقبولة ومفيدة. وفي عالم الحداثة الدين وحده هو الذي يقدر على مواجهة التشتت وغيره من أشكال الخلل في المجتمع، وهو وحده الذي يمكن أن يفهمنا ما الحياة وكيف يجب أن تكون. وبعبارة أخرى : يوافق هابرماس على أنّ الإطار الذي يرسمه الدين للحياة الأفضل أكثر عمقا بمراتب وأكثر تطورا من الإطار الذي ترسمه النظرية النقدية أو نظرية الفعل التواصلي. ويعترف هابرماس في مقالة له نشرها عام 1988 أن مواقفه السابقة من الدين كانت مشوبة بالتسرع. وبناء على هذا التطور في فكره لم يعد الدين يقبع في حواشي الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وهوامشها. وهذا يفتح أبوابا جديدة لفهم الدين ويعكس تحولا في طريقة التعاطي معه. وباعترافه بالتفاته إلى إمكان وقوع الفلسفة في الأخطاء، ونتيجة لذلك اهتزاز مكانتها الاجتماعية، فإنه يدعو الفلسفة إلى التعلم من الدين، بدل محاولة الحلول محله : ” إنّ الفلسفة لديها الكثير من الأدلة والمسوغات التي تدعوها إلى التعلم من التقاليد الدينية ” )). ( 17 )
من الواضح أنّ الإنسانية بدأت تدرك مؤخرا أنّها قد شطت كثيرا في تقييم قدرتها بمعزل عن الدين، هذا ما نراه واضحا في الحديث الراهن عن منطقة الفراغ التأسيسي للأخلاق النظرية – ويعلم الجميع العلاقة بين التشريعات المختلفة ومبادئ الأخلاق النظرية –
تقول ” جاكلين روس ” : (( إنّه مطلب أحجية : فعندما يكبر طلب الأخلاق النظرية، وعندما تتكاثر النظرات الأخلاقية والأوامر العتيدة من كل جانب، وفي كل مجال، لا يستطيع المراقب الفطن، إلا أن يشير، مع ذلك، إلى المفارقة التي تلازم مجتمعاتنا، مجتمعات ” ما بعد الحداثة ” ( تلك التي تفرغ المسارد الشمولية الكبرى ). إنّ الأخلاق النظرية، وهي محل طلب في كل مكان، تغرس بمشقة معاييرها وقيمها في أرض هي أساسها ومسوغها. بل إنّها تبدو أحيانا مما يتعذر العثور عليه. فمن كارل أوتو آبل إلى بول ريكور ، ثمة مفارقة يُعنى بها عدد جم من المفكرين : إنّ زماننا الشغوف بصنع النظريات الأخلاقية يحيا، مع ذلك، في ظل أخلاق نظرية إشكالية في الغالب … إنّ مهمة التأسيس تبدو بطبعها ذاته أقسى غرض لعصرنا. فإذا كان التأسيس يعني أن نجلب للأشياء المعطاة هنا – الآن مبدأ معقولية، ومسوغا، تحديدا، بصورة صحيحة أو كلية، للحقل النظري أو العملي، فكيف ننهض بمثل هذا المشروع ، وكيف نرقى لنبلغ فكر التأسيس الأخلاقي النظري ؟ )) ( 18 )
من هنا أدرك العديد من المفكرين الإوربيين ضرورة العودة للدين لتجاوز الفراغ في الأخلاق النظرية، ومنهم ” لوك فيري “، الذي يعتقد : (( إنّ الدين ما زال ينبوعا حيا للأخلاق. فهو يرى : إنّ مثل الوزنات الوارد عند متى، هو بلا شك مقطع الأناجيل المعبر بأكثر قوة عن الانقلاب في وجهة النظر، الذي أدى بالمسيح إلى سحب المشروعية عن القيم الأرستقراطية لاستبدالها بقيم المساواة والحرية. ويمكن أن يصلح كخيط مثالي ناظم لفهم ما تقدمه لنا إلى الآن الثورة اليهودية المسيحية على الصعيد الإيتيقي … لا بد أن ندرك جيدا ما يحويه هذا المثل من بعد إيتيقي. إنّه يمثل في عالم ما زال مليئا بالإيتيقا الارستقراطية زلزالا بحق، ثورة لا بد أن نقدرها. إنّها تُدرج لأول مرة فكرة المساواة كما سنجدها في العصر الحديث : معنى ذلك إن الطفل المصاب بالمنغوليا له نفس الكرامة هو وأينشتاين وأرسطو أو نيوتن. … إنّ الرؤية التي يحملها مثل الوزنات هي أحد إسهامات الأناجيل الذي بفضله سينفتح العالم المسيحي على العالم الانسانوي والديمقراطي … ومثلها عظة الجبل. إنّها تبين فيم الحب في أقصى الحالات هو أهم من القانون، وكيف لا يقضي على القانون في شيء، بل يمكّن من تحقيقه، وإعطائه معنى لا يتوفر عليه بغير الحب ( وهذا موضوع ذو دلالة عميقة للمؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء) )). ( 19 )
تقول ” جاكلين روس “: (( إنّ الفكر المعاصر يجدّد بحكمة هذه الموضوعات المدرسية : إنّه يدرك أحيانا ضمن المبدأ : الدين ينبوعا حيا، دون أن يخلط البتة هذا الينبوع بمعنى الأساس. وعلى هذا النحو فكر ” إيمانويل ليفيناس ” في التقليد التلمودي والتوراة اتخذ الدين بؤرة إلهام للأخلاق النظرية )). ( 20 )
وفي كتابه ” الانسان المؤله أو معنى الحياة ” ينصح ” فيري ” الإنسية الحديثة الرافضة لتأويلها ماديا، والمؤكدة على جانبها الروحي أن تعمل على إعادة تأويل إنسي للمفاهيم الرئيسية للدين المسيحي. بمعنى آخر لا بد لهذه الإنسية – بحسبه – من إعادة استثمار معين للمعجم، ومعه لرسالة الديانة المسيحية. وهو يقدّم في هذا السبيل مجموعة من الحجج، تعمل لفائدة إعادة بناء الديني هذه. ( 21 )
وفي السياق ذاته (( يتساءل هابرماس عما إذا كانت الدولة الليبرالية والعلمانية، قادرة على أن تسوغ قيامها و” تجدد نفسها ” بالرجوع إلى ” منابعها الخاصة ” أو بالاستناد إلى معاييرها الذاتية العقلانية أو الدستورية أو الديموقراطية، أم أنّها بحاجة إلى أن تستمد المشروعية والدعم من معايير سابقة عليها أو تقع خارجها وتتجاوزها ذات طبيعة دينية أو ما ورائية أـو خلقية ؟ … وهو يعترف، ولو متأخرا، بوجود ” أزمة ” تعاني منها المجتمعات الديموقراطية المعاصرة، كما يتجسد ذلك في الميل الطاغي إلى التخصيص الذي يغلب المصالح الشخصية والنزعات الفردية على القيم التي تسهم في تشكيل الإرادة العمومية، فضلا عن الخيبات الناتجة عن النزاعات الدائمة والمظالم الاجتماعية الصارخة لمجتمع عالمي آخذ في التفتت. وبالطبع فالأزمة تطال ” العقل ” نفسه، ولكن ليس على الطريقة النيتشوية التي يعتبرها هابرماس ذات طابع ” تدميري “. وإنّما بإخضاع العقل لنقد جذري يطال مبادئه التنويرية وأسسه العلمانية، بقدر ما يجعله ينفتح على آخر سواه، أي على الحقل الديني بقواه وفاعلياته … لا على نحو التنازل للأخذ بالتصورات الدينية، وإنّما على نحو الاعتراف بنمط الوجود الديني، سواء من الوجهة السياسية أو من الوجهة المعرفية، أي الاعتراف بمصالح الجماعات الدينية، وبأنّ ما تقوله لا ينتمي إلى منطقة اللامعقول، بل له رصيده من الحقيقة )). ( 22 )
ولا يفوتني هنا أنّ أذكر ما علق به ” علي حرب ” على ما تقدم من كلام ” هابرماس “، حيث كتب : (( هذا التطور الفكري لدى هابرماس يخالف أو يتجاوز ما ذهب إليه منظرون عرب، من دعاة الحداثة، يؤكدون على أنّ المبادئ والقواعد الدستورية والمدنية الخاصة هي أساس التضامن الاجتماعي، وهؤلاء يشهدون على جهلهم المركب، أولا بأزمة الحداثة؛ ثانيا بالتطور الذي شهد فكر هابرماس.)) ( 23 )
وفي ذات السياق يقول ( فوكوياما ) : (( على الرغم من أن النزعة الليبرالية نشأت تاريخيا في محاولة لإبعاد الدين عن مجمل الحياة العامة، فإن معظم المنظرين الليبراليين كانوا على قناعة بأن التعاليم الدينية لا يمكن، ولا يجب أصلا، إلغاؤها من الحياة الاجتماعية. الآباء المؤسسون للدولة الأميركية لم يكونوا بالضرورة متدينين، إلا أنهم كانوا جميعا مقتنعين بأن وجود حياة دينية نشطة، تؤمن بالثواب والعقاب الإلهيين، أمر مهم لنجاح الديمقراطية الأميركية )). ( 24 )
ويقول أيضا : (( في الماضي القريب كان الماركسيون والليبراليون ينظرون إلى الأديان التقليدية بكثير من الاحتقار ونفاد الصبر ( كونها نقطة ضعف )، وكانوا كثيرا ما يتساءلون عن سر هذا الاهتمام الزائد بالفرد وبالإصلاح الأخلاقي على المستوى الشخصي، في حين أن المشكلة الحقيقية تكمن في فساد المؤسسات الاجتماعية وحقوق الملكية الخاصة ؟ لكن المحاولات التي شهدها القرن العشرون لإصلاح المؤسسات الاجتماعية أو على أقل تقدير، تعديل حق الملكية الخاصة بغية إيجاد الأرضية المادية لبناء حياة أفضل، أثبتت جميعها فشلها وعجزها عن بلوغ تلك الآمال والتطلعات. كما بدا واضحا أن الأنظمة البيروقراطية الهادفة إلى توزيع، أو إعادة توزيع الثروة خلقت مشكلات اجتماعية خطيرة، أو فشلت في منع قيامها، مما ألقى ظلالا من الشك على البرامج الليبرالية والشيوعية لإصلاح المجتمع. لذلك قد يكون من الأفضل اتباع أسلوب الإصلاح الديني الفردي والبطيء من القاعدة إلى القمة )). ( 25 )
النقطة الثانية : فضلا عن وجود دراسات نظرية كثيرة – اسلامية وغربية – ( 26 ) تؤكد امتياز الدين الاسلامي بوصفه يرتكز على فهم معنوي للحياة، وإحساس خلقي بها. وأنّ الخط العريض فيه هو اعتبار الفرد والمجتمع معا، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن, وبوصفه أنّه قادر على استيعاب المتغيرات والتطورات لتي يشهدها عالمنا الحالي, وإيجاد حلول لمشاكله المتنوعة في مختلف المجالات بحيث يمكن أن ينبثق عنه نظام كامل للإنسانية. أقول فضلا عن ذلك كله فإنّ معطيات الفكري العالمي المعاصر ( الناتجة عن الواقع التطبيقي لبعض الأنظمة الاقتصادية وعن الجدل المستمر – على المستوى الفكري – حول طبيعة الاقتصاد الذي يمكن أن يصل بالإنسانية إلى بر النجاة ) تشير إلى أنّ الاقتصاد الذي يمكن التعويل عليه في هذا المجال ينبغي أن يتسم بمجموعة من السمات ويشتمل على مجموعة من المبادئ التي تجعله قادرا على إيجاد حلول للمشكلة الاقتصادية التي تعاني منها الإنسانية. ونحن لو تأملنا في تلك السمات والمبادئ جيدا لوجدنا أنّها تنطبق على سمات ومبادئ الاقتصاد الاسلامي دون غيره, كما سنلاحظ ذلك لاحقا.
فإن قيل ولكن الديانتين اليهودية والمسيحية يمكنهما أن يدعيان أن تلك السمات تنطبق أيضا على الاقتصاد اليهودي والاقتصاد المسيحي –. نقول : بغض النظر عن النقاش فيما إذا كانت المسيحية واليهودية يمتلكان رؤية اقتصادية ناضجة كما هو الحال في الاسلام – فإنّ هذا الكلام مرحب به, لأنه لا يعني سوى أنّ الاسلام مصدق لليهودية والمسيحية ومكمل لهما.
فإن قيل أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر لا تشير إلى السمات التي تدعون أنّ الاسلام يتمتع بها ولا إلى المبادئ التي تؤكدون أنّ الاسلام يشتمل عليها, وإنّما تشير إلى سمات مختلفة, فحينئذ لا يكون لدينا أيّ خيار سوى انتظار أن يبيّن لنا هؤلاء ما هي تلك السمات ؟ وحينما يتحقق ذلك يكون لكل حادث حديث.
في الحقيقة أنّنا لا ننكر على اليهودية والمسيحية أنّهما تشتملان على رؤية اقتصادية, ولكننا – بحسب معتقداتنا – نؤمن بأنّ هذه الرؤية لم تكتمل ولم تأخذ صيغتها النهائية القابلة للتطبيق على المستوى العالمي إلا بالإسلام, بوصفه امتدادا ومصدقا ومكملا للديانتين اليهودية والمسيحية.
الفرضية الثالثة : الاقتصاد الاسلامي موجود ومنجز ونحن مدعوون إلى تمييزه بوجهه الحقيقي, وتحديده بهيكليته العامة, والكشف عن قواعده الفكرية, وإبرازه بملامحه الأصيلة
إذا أدركنا أنّ وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع حلول لمشاكل الحياة الاقتصادية، ترتبط بفكرته ومثله في العدالة، وأضفنا الى هذه الحقيقة : إنّ تعبيري ( الحلال ، والحرام ) في الاسلام تجسيدان للقيم والمثل التي يؤمن بها الإسلام ، فمن الطبيعي أن ننتهي من ذلك الى اليقين بوجود اقتصاد مذهبي إسلامي، لأن قصة الحلال والحرام في الإسلام تمتد إلى جميع النشاطات الإنسانية وألوان السلوك : سلوك الحاكم والمحكوم، وسلوك البائع والمشتري، وسلوك المستأجر والأجير، وسلوك العامل والمتعطل. فكل وحدة من وحدات هذا السلوك هي إما حرام وإما حلال، وبالتالي هي إما عدل وإما ظلم، لأن الإسلام إن كان يشتمل على نص يمنع عن سلوك معين سلبي أو إيجابي فهذا السلوك حرام، وإلا فهو حلال.
وإذا كانت كل الوان النشاط في الحياة الاقتصادية خاضعة لقضية الحلال والحرام، بما تعبر عنه هذه القضية من قيم ومثل، فمن حق البحث في الإسلام أن يدعونا إلى التفكير في استخلاص وتحديد المذهب الاقتصادي الذي تعبر عنه قضية الحلال والحرام بقيمها ومثلها ومفاهيمها — فالمفكر الإسلامي أمام اقتصاد منجز تم وضعه، وهو مدعو إلى تمييزه بوجهه الحقيقي، وتحديده بهيكله العام، والكشف عن قواعده الفكرية، وإبرازه بملامحه الأصيلة، ونفض غبار التاريخ عنها، والتغلب بقدر الإمكان على كثافة الزمن المتراكم والمسافات التاريخية الطويلة، وإيحاءات التجارب غير الأمينة التي مارست – ولو إسميا – عملية تطبيق الإسلام، والتحرر من أطر الثقافات غير الإسلامية التي تتحكم في فهم الأشياء، وفقا لطبيعتها واتجاهها في التفكير. ( 27 )
دراسة الفرضية الثالثة على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
يدرك المفكرون الغربيون المعاصرون والمطلعون على الفكر الغربي والدين الاسلامي بشكل جيد أنّ الدين الاسلامي في جوهره لا يمكنه أن يتوافق مع الأنظمة الاقتصادية الحديثة, فلأسباب تعود إلى جوهر التقاليد الدينية – كما يوضح خوسيه كازانوفا – يمكننا القول أنه من الصعب التوفيق بين الدين الإسلامي واقتصاد السوق )). ( 28 )
إذا ضممنا هذه الحقيقة إلى حقيقة أنّ النشاط الاقتصادي يمثل جانبا محوريا من الحياة الاجتماعية ويتأثر تأثرا مباشرا بجملة القيم والمعايير والالتزامات الأخلاقية وغيرها من العادات والأعراف التي تحدد بمجموعها شكل المجتمع. ( 29 ) وكما – يعبر آدم سميث ويتفق معه فوكوياما – أنّ الحياة الاقتصادية جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية, ولا يمكن فهمها بمعزل عن جملة العادات والتقاليد والأعراف والقيم الأخلاقية السائدة, لا يمكن فصل الاقتصاد عن الثقافة في المجتمع. ( 30 ) وهذه الحقيقة قد تحدثنا عنها بالتفصيل في دراستنا للفرضية الأولى, ثم ضممنا هاتين الحقيقتين إلى الحقيقة البديهية التي تشير إلى أنّ أيّ أمة لا بد لها من طريقة يفضل المجتمع اتباعها في حياتها الاقتصادية وحلّ مشاكلها العملية, سوف ننتهي بلا أدنى شك إلى النتيجة الآتية : إنّ الأمة الاسلامية ليس أمامها إلا أحد خيارين : فإما أن ترضخ لنظام اقتصادي لا ينسجم مع ثوابتها وبالتالي يكون مصيره الفشل, وإمّا أن تعود لتراثها لتكتشف مذهبها الاقتصادي الذي ينسجم مع تطلعاتها, وهذا هو ما ستجد الأمة الاسلامية في نهاية المطاف أنّه الخيار الوحيد الذي ينبغي لها ان تتبناه.
وقد يشكك البعض فيقول ولكن هل هناك – فعلا – مذهب اقتصادي في الاسلام ؟
إذا تجاوزنا عشرات الدراسات الغربية التي لم تؤكد على وجود مذهب اقتصادي في الاسلام فقط, بل أفضليته أيضا, التزاما منا بالاستشهاد بالدراسات المعاصرة ( رغم أنّ تقادم تلك الدراسات لا يؤثر على قيمتها المعرفية ) فإنّ الدراسات المعاصرة ما زالت تؤكد هذه الحقيقة, ولا أدل على ذلك مما كتبه ” تيم كاسِر ” في كتابه ” الثمن الباهظ للمادية “, فبعد ذكره لحديث النبي محمد ( صى الله عليه وآله وسلم ) : ” ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ” كتب ما نصه : (( قدمت في صفحات هذا الكتاب معطيات علمية لأبين حقيقة حديث النبي محمد (ص) : إن الحياة التي تركز على تحصيل المال واكتساب الشهرة هي حياة فاقدة للمعنى. وبينت في الفصل الثاني أن القيم المادية تتماشى مع المستوى المتدني لجودة الحياة والصحة النفسية. ورأينا في الفصول من الرابع إلى السابع أن إشباع الحاجات للسلامة والأمن والكفاءة وتقدير الذات والتواصل مع الآخرين، والاستقلالية والأصالة لا يتم بالمستوى المطلوب عندما تكون القيم المادية مورد الاهتمام الأساسي في نظام قيم الناس. كما وصف الفصل الثامن بعض الطرق التي تتعارض فيها القيم المادية مع رفاه الناس الآخرين، والمجتمع، والكوكب. وبعد توضيح هذه المسألة تبين أن: القيم المادية تقوض جودة حياتنا )). ( 31 )
هل حقا يمكن لأحد أن يجرأ مع وجود كل تلك التعاليم التي أتى بها القرآن والحديث الشريف والتي تغطي جميع مجالات الحياة بأدق تفاصيلها, أن يشكك في أنّ الاسلام لا يمتلك تصورات عن مشكلات الحياة الاقتصادية وحلولها ؟!!
في الحقيقة إنّ معظم التشكيك ناتج عن الخلط بين مفهومي “علم الاقتصاد” و “المذهب الاقتصادي”, ولذلك أكّد السيد الصدر على ضرورة التمييز بينهما لتجاوز ما قد يقع – كنتيجة للخلط بين الطابع العلمي والطابع المذهبي في البحث الاقتصادي – من سوء فهم لطبيعة الاقتصاد الاسلامي, كما هو الحال عند بعض أولئك الذين يؤكدون على عدم وجود اقتصاد في الإسلام (( إذ لم يتح لهم أن يميزوا بشكل حاسم بين العلم والمذهب، فظنوا أنّ القول بوجود اقتصاد اسلامي يستهدف ادعاء أن الإسلام سبق المفكرين الغربيين في الإبداع العلمي للاقتصاد السياسي، وظنوا أيضا أن القول بوجود اقتصاد اسلامي يعني اننا سوف نجد لدى الإسلام فكرا اقتصاديا، وبحثا علميا في قوانين الحياة الاقتصادية من إنتاج وتوزيع وغيرهما نظير ما نجد في بحوث ( آدم سميث ) و ( ریکاردو ) ومن إليهما من أقطاب الاقتصاد السياسي، ولما كنا لا نجد في الإسلام بحوثا من هذا القبيل، فليس الاقتصاد الاسلامي إلا أسطورة وخيالا مجنحا.
ويمكن لهؤلاء أن يتنازلوا عن تأكيدهم على عدم وجود اقتصاد إسلامي إذا عرفوا بوضوح الفرق بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد او ما يسمى بالاقتصاد السياسي، وعرفوا : أن الاقتصاد الإسلامي مذهب وليس علما )) ( 32 ).
المبحث الثاني : دراسة السمات العامة للاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
السمة الأولى : الاقتصاد الاسلامي اقتصاد ديني
يعتقد السيد الصدر أنّ الإطار الديني أنّ الذي يمتاز به المذهب الاقتصادي الاسلامي هو الذي يجعله قادرا على النجاح وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان. يقول السيد الصدر : (( يمتاز المذهب الاقتصادي في الاسلام عن بقية المذاهب الاقتصادية بإطاره الديني العام. فإنّ الدين هو الإطار الشامل لكل أنظمة الحياة في الاسلام. فكل شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الاسلام يمزج بينها وبين الدين، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للإنسان بخالقه وآخرته.
وهذا الإطار هو الذي يجعل النظام الاسلامي قادرا على النجاح، وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان، لأنّ هذه المصالح الاجتماعية لا يمكن أن يضمن تحقيقها إلا عن طريق الدين )). ( 33 ) ذلك أنّ الدين يوفر للإنسان – من جهة – معرفة بالتنظيم الاجتماعي الذي يكفل له مصالحه, لأنّه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكل خصائصه, والطبيعة الإنسانية بكل محتواها, وعلى هذا الأساس يُقدّم الدليل على ضرورة الدين في حياة الإنسان. ( 34 ) ومن جهة ثانية يوفر الدين للإنسان الدافع النفسي لإيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه بما يضمن تحقيق المصلحة الاجتماعية للإنسان, ذلك أنّ الدين يمثل الحل الوحيد للتغلب على مشكلة التعارض بين المصلحة الاجتماعية والمصالح الخاصة للأفراد من طريق التوفيق بين المصلحتين؛ لأن الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الانسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في حياته الأرضية أملا في النعيم الدائم…
وهكذا ترتبط المصالح الاجتماعية العامة بالدوافع الذاتية بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني. ( 35 ) فالدين بحسب هذا الفهم هو صاحب الدور الأساسي في حلّ المشكلة الاجتماعية من طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة, (( وبهذا نعرف أنّ الدين يمثل حاجة فطرية للإنسان, لأنّ الفطرة ما دامت هي أساس الدوافع الذاتية التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية, فلا بد أن تكون قد جهزت بإمكانات لحل المشكلة أيضا, لئلا يشذ الإنسان عن سائر الكائنات التي زُوّدت فطرتها بالإمكانات التي تسوق كل كائن إلى كماله الخاص. وليست تلك الإمكانات التي تملكها الفطرة الإنسانية لحل المشكلة إلا غريزة التديّن والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام )). ( 36 ) (( فلا بدّ للحياة الاجتماعية إذن من دين حنيف وقيّم, ولا بدّ للتنظيم الاجتماعي في مختلف شعب الحياة من أن يوضع في إطار ذلك الدين القادر على التجاوب مع الفطرة ومعالجة المشكلة الأساسية في حياة الانسان. ( 37 )
دراسة السمة الأولى على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
انطلاقا من الفرضيات الأساسية لنظرية الشهيد الصدر في المذهب الاقتصادي للإسلام يقدم لنا الشهيد الصدر مذهبا اقتصاديا يتسم بإطاره الديني العام, ويؤكد أنّ هذه السمة هي التي تميز المذهب الاقتصادي الإسلامي عن بقية المذاهب الاقتصادية. وتجعله قادرا على النجاح، وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان. لأنّ هذه المصالح الاجتماعية لا يمكن أن يضمن تحقيقها إلا عن طريق الدين. وذلك للأسباب الآتية :
السبب الأول : إنّ الدين يوفر للإنسان معرفة بالتنظيم الاجتماعي الذي يكفل له مصالحه, لأنّه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكل خصائصه, والطبيعة الإنسانية بكل محتواها …
السبب الثاني : يوفر الدين للإنسان الدافع النفسي لإيجاد التنظيم الاجتماعي وتنفيذه بما يضمن تحقيق المصلحة الاجتماعية للإنسان, ذلك أنّ الدين يمثل الحل الوحيد للتغلب على مشكلة التعارض بين المصلحة الاجتماعية والمصالح الخاصة للأفراد من طريق التوفيق بين المصلحتين …
السبب الثالث : أنّ الدين يمثل حاجة فطرية للإنسان, لأنّ الفطرة ما دامت هي أساس الدوافع الذاتية التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية, فلا بد أن تكون قد جهزت بإمكانات لحل المشكلة أيضا, وليست تلك الإمكانات الفطرية لحل المشكلة إلا غريزة التديّن والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام.
والآن سوف نفحص هذه الأسباب الثلاثة لنرى موقف الفكر العالمي المعاصر منها :
أما بخصوص السبب الأول فمن الواضح أنّ الإنسانية بدأت تدرك مؤخرا أنّها قد شطت كثيرا في تقييم قدرتها بمعزل عن الدين، هذا ما نراه واضحا في الحديث الراهن عن منطقة الفراغ التأسيسي للأخلاق النظرية, والذي له تأثير كبير على تنظيم الحياة الاجتماعية.
تقول ” جاكلين روس ” : (( لا يستطيع المراقب الفطن، إلا أن يشير إلى المفارقة التي تلازم مجتمعاتنا، مجتمعات ” ما بعد الحداثة ” ( تلك التي تفرغ المسارد الشمولية الكبرى ). إنّ الأخلاق النظرية، وهي محل طلب في كل مكان، تغرس بمشقة معاييرها وقيمها في أرض هي أساسها ومسوغها … إنّ مهمة تحديد أساس لأخلاق نظرية لما بعد الحداثة، تبدو أحيانا أنّها مهمة يائسة، وأنّ المعايير الأصلية ترتسم في الأفق بعسر … إنّ مهمة التأسيس تبدو بطبعها ذاته أقسى غرض لعصرنا. فإذا كان التأسيس يعني أن نجلب للأشياء المعطاة هنا – الآن مبدأ معقولية، ومسوغا، تحديدا، بصورة صحيحة أو كلية، للحقل النظري أو العملي، فكيف ننهض بمثل هذا المشروع ، وكيف نرقى لنبلغ فكر التأسيس الأخلاقي النظري ؟ )) (38)
من هنا أدرك العديد من مفكري الغرب ضرورة العودة إلى الدين لتجاوز الفراغ التأسيسي في الأخلاق النظرية، ومنهم ” لوك فيري “، الذي يعتقد : (( إنّ الدين ما زال ينبوعا حيا للأخلاق )). (39) و” هابرماس ” الذي يؤكد على أنّ (( الدين وحده الذي يمكن أن يفهمنا ما الحياة وكيف يجب أن تكون. وبعبارة أخرى : يوافق هابرماس على أنّ الإطار الذي يرسمه الدين للحياة الأفضل أكثر عمقا بمراتب وأكثر تطورا من الإطار الذي ترسمه النظرية النقدية أو نظرية الفعل التواصلي … وهو يدعو الفلسفة إلى التعلم من الدين، بدل محاولة الحلول محله : ” إنّ الفلسفة لديها الكثير من الأدلة والمسوغات التي تدعوها إلى التعلم من التقاليد الدينية ” )). ( 40 )
و (( يتساءل هابرماس عما إذا كانت الدولة الليبرالية والعلمانية، قادرة على أن تسوغ قيامها و” تجدد نفسها ” بالرجوع إلى ” منابعها الخاصة ” أو بالاستناد إلى معاييرها الذاتية العقلانية أو الدستورية أو الديموقراطية، أم أنّها بحاجة إلى أن تستمد المشروعية والدعم من معايير سابقة عليها أو تقع خارجها وتتجاوزها ذات طبيعة دينية أو ما ورائية أو خلقية ؟ … وبالطبع فالأزمة تطال ” العقل ” نفسه، ولكن ليس على الطريقة النيتشوية التي يعتبرها هابرماس ذات طابع ” تدميري “. وإنّما بإخضاع العقل لنقد جذري يطال مبادئه التنويرية وأسسه العلمانية، بقدر ما يجعله ينفتح على آخر سواه، أي على الحقل الديني بقواه وفاعلياته … لا على نحو التنازل للأخذ بالتصورات الدينية، وإنّما على نحو الاعتراف بنمط الوجود الديني، سواء من الوجهة السياسية أو من الوجهة المعرفية، أي الاعتراف بمصالح الجماعات الدينية، وبأنّ ما تقوله لا ينتمي إلى منطقة اللامعقول، بل له رصيده من الحقيقة )). ( 41 )
أما فيما يتعلق بالسبب الثاني فـ (( إنّ نظريات هابرماس المتأخرة تؤكد على أنّ الدين يعرض صورا للحياة خالية من الشوائب وملهمة في آن. ويُرغّب أتباعه، ويحرضهم على أداء أفعال مقبولة ومفيدة. وفي عالم الحداثة الدين وحده هو الذي يقدر على مواجهة التشتت وغيره من أشكال الخلل في المجتمع )). ( 42 )
و” هابرماس ” (( يعترف، ولو متأخرا، بوجود ” أزمة ” تعاني منها المجتمعات الديموقراطية المعاصرة، كما يتجسد ذلك في الميل الطاغي إلى التخصيص الذي يغلب المصالح الشخصية والنزعات الفردية على القيم التي تسهم في تشكيل الإرادة العمومية، فضلا عن الخيبات الناتجة عن النزاعات الدائمة والمظالم الاجتماعية الصارخة لمجتمع عالمي آخذ في التفتت )). ( 43 ) وفي ذات السياق يقول ( فوكوياما ) : (( على الرغم من أن النزعة الليبرالية نشأت تاريخيا في محاولة لإبعاد الدين عن مجمل الحياة العامة، فإن معظم المنظرين الليبراليين كانوا على قناعة بأن التعاليم الدينية لا يمكن، ولا يجب أصلا، إلغاؤها من الحياة الاجتماعية. الآباء المؤسسون للدولة الأميركية لم يكونوا بالضرورة متدينين، إلا أنهم كانوا جميعا مقتنعين بأن وجود حياة دينية نشطة، تؤمن بالثواب والعقاب الإلهيين، أمر مهم لنجاح الديمقراطية الأميركية )). ( 44 )
ويقول أيضا : (( ونظرا للعلاقة الوثيقة بين الدين والمجتمع في التاريخ الأميركي، يجب أن يهتم الأميركيون بتعاليمهم الدينية والفوائد التي تعود بها على مجمل الحياة الاجتماعية. بعض المثقفين الأميركيين يكنون كراهية دفينة لبعض مظاهر التدين، وخصوصا الأصولية المسيحية الجديدة، فيترفعون عن مثل هذه الغوغائية والتصلب في الرأي والمعتقد. لكن يتوجب على هؤلاء المثقفين إدراك أهمية الآثار الاجتماعية للدين، من حيث تشجيع فن التواصل الاجتماعي في أميركا )). ( 45 )
أما بخصوص السبب الثالث, فإنّ العالم المعاصر قد أدرك جيدا أنّ الحاجة إلى ( المتعالي ) هي الحاجة التي جبل عليها الشعور الانساني الأكثر عمقا. ( 46 ) ولهذا – والتعبير لأريك فروم –: تجد أنّ الانسان الذي يحاول أن يعيش دون اعتقاد يصبح عقيما، دون أمل وخائفا في عمق وجوده. ( 47 )
يؤكد ” فيري ” هذا المعنى باستمرار، وهو يشير إلى أن هذه الحاجة المتجذرة في الانسان هي التي تدفعه باستمرار إلى أن يسدها بأشكال مختلفة، وإذا كنا في الوقت الحاضر نرى أنّ تلك الأشكال مبتذلة، فهذا لا يلغي أنّ الحاجة إلى التعالي ما زالت قائمة. يتساءل ” فيري “: (( هل يمكن لأخلاقياتنا الخالية من كل تعال أن تعوض هذا الاختفاء للالهي ؟ وهل ينبغي لها أن تفعل ذلك ؟ وهل يمكن لحجب الحكمة القديمة أن يكون أساسيا إلى درجة أنّ المسألة الجوهرية المتعلقة بمعنى الحياة قد صارت ببساطة لاغية وغير ذات موضوع ؟ وهل لا خيار لنا حقيقة إلا بين أديان مكونة والعلاجات النفسية ؟ أو الشجاعة بالنسبة لمن يرفض هذه وتلك ؟ فهل لا فائدة في أمل التركيز على نمط آخر تحت طلب المعنى الذي يفرض نفسه علينا في هذه اللحظات المقدسة ؟ إنّه قد يكون من الأفضل، على الأقل، التأكد من ذلك بأنفسنا بدل الهرب من التساؤلات التي تلاحقنا، سيما وأنّ حياتنا العاطفية قد سارت منذ ما يقرب من القرنين من الزمان في اتجاه طائش )). ( 48 )
ويبين لنا ” فيري “: (( إنّ الحاجة إلى التعالي هي التي تفسر لنا كيف أن عشرات، بل مئات الملايين من الناس قد اعتنقوا الماركسية بكل قواهم، فلقد كانت الماركسية حتى في صيغها الأكثر دنيوية تتضمن فكرة ” ما وراء ” للحياة الحاضرة، بل أكثر من ذلك، كانت تتصور هذا ” الما وراء ” بكيفية لاهوتية … لقد كانت تمنح دلالة شاملة لمشروع نضالي يقوم على التضحية بالذات باسم قضية، إذا كان من المفروض أنّها مادية، فإنّها مع ذلك متعالية. ورغم إلحاد مبدئي فلقد عرفت الماركسية كيف تمفصل هذا التعالي المطلق للمثل الأعلى على المحايثة الجذرية للدنيوي، فالمناضل كان يعمل من أجل المستقبل، من أجل الأجيال المقبلة، من أجل مجيء المجتمع الكامل، الجنة الأرضية، ولكن هذا التطلع إلى ” الماوراء ” كان يتجسد في سلسلة الممارسات الملموسة التي كانت تزعم منح دلالة معينة لأدنى تفاصيل الحياة الأرضية. ( 49 )
ويبدو أنّ الفكر الغربي المعاصر قد أدرك مأزقه، وهو يعيش معاناة حقيقية في محاولة الخروج من هذا المأزق، فهو من جهة أصبح يدرك أنّ التطلع نحو التعالي حالة فطرية ليس من الصحيح إقصاؤها، لكنه من جهة أخرى لا يجد نفسه مستعدا للتخلي عما يعتقده أنّه من مكتسبات الفكر الغربي، عما هو فريد وريادي ورائع في هذا الفكر، والمتمثل في تخليص الانسان من القيود الأيديولوجية والأوهام الميتافيزيقية، وتحريره أبعاد من الوجود لطالما ظلت مهملة أو مقموعة. إنّ المخاطرة – كما يؤكد ” فيري ” – كبيرة إذن في أن تؤدي متابعة لا محدودة للتفكيك إلى تحطيم باب مفتوح على مصراعيه. فالمسألة لم تعد للأسف، الاستمرار في كسر ” أرجل الصلصال ” الضعيفة للمثل التعيسة التي لم يعد بإمكان أحد رؤيتها لكثرة هشاشتها وافتقارها لليقين. لم يعد ملحا بالتأكيد أن نهاجم ” السلطات ” التي لم تعد موجودة لفرط ما أصبح سير التاريخ آليا ومجهولا، بل على العكس، إنّ المطلوب هو العمل على بروز افكار جديدة، لا بل مثل عليا جديدة، لكي نستعيد الحد الأدنى من السيطرة على مسار العالم. ( 50 )
وفي محاولات الخروج من هذه المعاناة يقترح بعض المفكرين الغربيين ومنهم ” فيري ” – ما يمكن تقييمه بحذر على أنّه خطوة في الاتجاه مجددا نحو التعالي – توليفة تعيد الاستحقاق للتطلع الانساني الفطري للتعالي وللمقدس، ولكنها في نفس الوقت تحافظ على مكتسبات الفكر الغربي. ما يقترحه ” فيري ” هو شكل جديد للتعالي، يتناغم مع ما يسميه هوسرل ” التعالي في محايثة الحياة “. أي أنّه يعطي بعدا مقدسا للمعيش ذاته، دون التردي مع ذلك في الأوهام الميتافيزيقية التقليدية التي فضحتها فلسفات التفكيك. إنّه شكل من التعالي يتنزل داخل تجربتنا الدنيوية. إنّ ما يقترحه ” فيري ” هو : ” أنسنة الدين “. ( 51 )
أجد من المفيد هنا أن نستمر في توضيح ما يقصده ” لوك فيري ” بـ ” أنسنة الدين “؛ لأنّ ما يقوله بهذا الصدد يتضمن أفكارا مهمة تؤكد الحاجة الفطرية للتعالي, ثم ننتقل بعد ذلك للتعليق على أنّ محاولة ” فيري ” التي لا تمثل سوى التفاف على الحاجة الفطرية للدين يهدف من خلاله ” فيري ” وغيره من مفكري الغرب السائرين في هذا الاتجاه إنقاذ الفكر الغربي المعاصر من المأزق الذي وضع نفسه فيه حينما ابتعد عن الدين.
تنتمي ” أنسنة الدين ” التي يدعو إليها ” فيري “، والتي ترتكز في الأساس على مفهوم ” التعالي في المحايثة ” إلى ما يطلق عليه اليوم: ” مذاهب أخلاق المحايثة “، التي تدل على طائفة من النظريات القيمية المعقلنة، على مذاهب ما وراء الأخلاق، الحريصة على البقاء في ميدان عالمنا ذاته. وعندئذ تجد القيم أنّها مؤكدة، لا بالانطلاق من مرجعية مثل أعلى كلي، وليس من بعض ” ما وراء العالم “، بل في قلب ما هو معطى لنا هنا الآن. ( 52 )
تعني ” أنسنة الدين ” في الفكر الغربي أنّها الانتقال من فكرة دينية عن القيم ترى فيها أنّها مجسدة في تعال عمودي إلى فكرة أنّ هذه القيم مجسدة في قلب الإنسانية، بمعنى آخر أنّ الأنسنة نزع للطابع الديني عن القيم وإضفاء الطابع الإنساني عليها دون إضرار بالتعالي الذي تستبطنه هذه القيم بطبيعتها، بل بإعادة ترتيب لهذا التعالي من كونه تعاليا عموديا إلى تعال أفقي. فالتضحية كقيمة تستبطن الاعتراف بمعنى متعال على الوجود الخاص بالنسبة لمن يدرك ضرورتها ( فلأجل أية دوافع ومن أجل أية كيانات ضحت الكائنات البشرية على مر الأزمان، بحياتها، أو على الأقل بأحد أوجه هذه الحياة ؟ ) وأنسنتها تعني الانتقال من فكرة دينية عن التضحية إلى فكرة أنّها لن تستطيع أن تطلب إلا ” من الإنسان ومن أجله “. كذلك ” الحب ” أنسنته تعني الانتقال به إلى الفضاء الإنساني بعد أن كان مخصصا للألوهية ( أو لكيانات متعالية على البشر مثل الوطن أو الثورة )، وأنسنة ” الخلاص ” ستقوم على تأسيس معنى الوجود، ليس على الألوهية، وإنما على الانسان بما هو انسان، على عقله وحريته، على الاقتناع أنه بفضل قواه الذهنية وحدها، يستطيع، بل ينبغي أن يصبح صانع مصيره الخاص. فلأول مرة – في ضوء الأنسنة – سوف لا يستقي الخلاص مصدره ولا غايته القصوى من كينونة خارجة عن الإنسانية ومتعالية عليها، بل من الانسان ذاته. الأنسنة، باختصار، تغير علاقة الإنسان بالمقدس، دون أن تتضمن اختفاءه التام. أنسنة الدين إذن، لا تعني أنّها تفسير الدين على أساس أنّه ظاهرة بشرية، بل هي تذهب إلى أبعد من ذلك، إنّها تحاول أن تقدم، كما أوضحنا، قراءة للتعالي الذي يرتكز عليه الدين تختلف عن القراءة الدينية له، فهي لا تنكر أنّ الدين منبع للقيم ولا ترفض التعالي، ولكنها تحاول أن تقرأ القيم في ضوء قراءة للتعالي تختلف عن قراءة الدين له. ( 53 )
كتب ” لوك فيري ” تحت عنوان ” أنسنة التضحية “: (( إنّ التضحية في سبيل الوطن أو في سبيل القضية الثورية لم تعد اليوم أمرا مجديا، فهل اختفت نهائيا من أفقنا الأخلاقي ؟ لقد سبق لي أن أوحيت بأنّ الأمر ليس كذلك، غير أنّ ما هو صحيح، بالمقابل هو أنّها تغيرت بعمق في طبيعتها : فإذا لم يعد مواطنونا مستعدين للتضحية من أجل قيم ” عمودية ” قد تفرض عليهم من أعلى إلى أسفل، كقوى خارجية، فإنّهم يبدون أحيانا مستعدين لفعل ذلك من أجل كائنات أخرى، بشرط ” أن تكون إنسانية)). ( 54 ) وهكذا يتضح : (( إنّنا لا نعيش نهاية القيم التضحياتية بقدر ما نعيش، بالمعنى الدقيق، أنسنتها، أي الانتقال من فكرة دينية عن التضحية إلى فكرة أنّها لن تستطيع أن تطلب إلا ” من الإنسان ومن أجله “. … فحيثما كانت هناك تضحية، هناك أيضا فكرة قيم عليا. وكون أنّ هذه القيم تدرك اليوم على أنّها مجسدة في قلب الإنسانية، وليس في تعال عمودي ما لا يغير من ألأمر في شيء. أو بالأحرى نعم : إنّ هذا يغير علاقة الإنسان بالمقدس، ولكن لا يتضمن إطلاقا اختفاءه التام، فالتعالي الجديد لا يفرض أقل من القديم، حتى ولو كان يفعل ذلك على نمط آخر … إنّ مستلزم الاستقلال، المحبب جدا إلى الإنسية الحديثة، لا يلغي فكرة التضحية، ولا فكرة التعالي. وإنّما ببساطة، وهذا هو ما يجب أن يفهم جيدا، يتضمن أنسنة للتعالي، ومن ثم ليس القضاء كليا على، ولكن بالأحرى انتقالا للصور التقليدية للمقدس )). ( 55 )
وتحت عنوان أوجه جديدة للمقدس كتب ” فيري “: (( إنّ السيرورة البطيئة لتحرر العالم من الأوهام التي تمت بواسطتها أنسنة الإلهي تنكشف هكذا معوضة بحركة موازية لتأليه الإنساني. وهو ما يجعل التشخيص إشكاليا إلى أبعد حد، التشخيص الذي بحسبه قد نشهد بلا قيد ولا شرط تآكل كل التعاليات في كل أشكالها وقد انهزمت بآثار دينامية محتومة : دينامية الفردانية الديمقراطية. فكل شيء يشير على العكس إلى أنّ هناك تعاليات تعيد تشكيل ذاتها، أولا في دائرة العواطف الفردية، ولكن أيضا وبدون شك فيما وراءها، من خلال اعتبار الإنسانية في مجموعها. ولأنّ هذه التعاليات تعاش في محايثة الذوات، فإنّها تعرف مجالا جديدا للمقدس. إنّ هذا المجال هو الذي علينا الآن أن نحيط بحدوده )). ( 56 )
من الغريب – حقا – ذلك التناقض الواضح الذي يقع فيه العديد من الفلاسفة الغربيين الذين ينتمون إلى ” مذاهب أخلاق المحايثة “, ومنهم ” فيري “, : فهم من جهة، حينما يتحدثون عن الاستدلال العقلي الحر، لا يضعون حاجزا أمام ذلك الاستدلال لدرجة أنّهم يذهبون إلى أنّه من الممكن للفلاسفة إدراج فكرة الاله في مذهبهم، بل يمكنهم حتى إيلائها دورا مركزيا، بمعنى أنّه من غير المستبعد، منطقيا، العودة لفكرة الإله بمعناها الديني, طالما كان ذلك قائما على الاستدلال العقلي الحر. ( 57 ) ولكنهم من جهة أخرى، حينما يتحدثون عن تاريخ الفلسفة، يعتقدون أنّ الفلسفة تسير باتجاه لا يمكن معه العودة إلى معبودات ما وراء الطبيعة، إنّهم يحكمون بشكل مسبق على الإمكانات المتاحة أمام الاستدلال العقلي الحر، فهم يعتقدون أنّ خطا موجها سيظهر بداهة في نهاية التاريخ، ويمكن الحكم بأنّه إيجابي على الأقل إن كنا إنسانويين؛ لأنه يتوافق مع وجود منطق في أنسنة الأجوبة عن مسألة الحياة الطيبة.
إذن : ” فيري ” وهو الفيلسوف الذي يعتقد أنّ ما يميّز الفلسفة هو أنّها ترتكز على الاستدلال الحر, يخبرنا ومن دون الاستناد إلى أيّ استدلال أن بعض الفلاسفة يمكنهم – من الناحية المنطقية – من طريق الاستدلال الحر أن يؤكدوا فكرة الإله ويولوها دورا مركزيا إلا أنّ الفلسفة لن تهتم بما سيصل إليه هؤلاء الفلاسفة, لمجرد أنّه يعتقد أنّ خطا موجها سيظهر بداهة في نهاية التاريخ، ويمكن الحكم بأنّه إيجابي على الأقل إن كنا إنسانويين؛ لأنه يتوافق مع وجود منطق في أنسنة الأجوبة عن مسألة الحياة الطيبة.
وإذا ما تجاوزنا هذا التناقض الواضح وغضضنا النظر عن البداهة المزعومة, سوف نفاجأ أنّ ” فيري ” ومع أنّه يدعونا إلى الحذر والتدقيق في فكرتي ” التقدم والتأخر ” لأنّهما أحيانا مدعاة للخطأ نجده مع ذلك يعتقد بداهة – مع أنّه يقر أنّ ما يعتقد به ليس أمرا بديهيا كما سنلاحظ فيما يأتي – أنّ الفلسفة تسير قدما باتجاه ” الأنسنة ”
.يقول ” فيري ” : (( حذار, لا بد من تدقيق فكرتي ” التقدم ” و” التأخر “؛ لأنّهما مدعاة للخطأ أحيانا. ففي الفلسفة كما في الفن، لا تقدم بالضرورة، بل ثمة بالأحرى تصورات مختلفة للعالم، متعاقبة بالتأكيد في التاريخ، لكن لا يمكن الحكم بشأنها وترتيبها هرميا إلا شريطة أن نوضح جيدا مقياسنا في الحكم. فلا بد دوما من تدقيق وجهة النظر التي يمكن انطلاقا منها القول بأنّ خطا ما موجها يظهر في ذلك التاريخ. بل أكثر من ذلك بأنّ خطا يتجه نحو الأفضل, وهو أمر ليس بديهيّا البتة. غير أنّي أريد أن أكون صريحاً منذ البداية, إذ أعتقد بالفعل أنّ خطاً موجها سيظهر بداهة في نهاية التاريخ، ويمكن الحكم بأنّه إيجابي على الأقل إن كنا إنسانويين؛ لأنه يتوافق مع وجود منطق في أنسنة الأجوبة عن مسألة الحياة الطيبة.( 58 )
هكذا يتضح أنّ ” مذاهب أخلاق المحايثة ” ليست سوى محاولة يائسة لإنقاذ الفلسفة الغربية ذات الاتجاه الإلحادي من مأزقها, فبعد أن مضى عصر التفكيك ولم يقض على النزعة الفطرية للتعالي حاولت هذه المذاهب أن تضع حاجزا وهميا دون اتجاه النزعة الفطرية للتعالي نحو الدين, وذلك بأن تنزع عن التعالي طابعه المفارق وتمنحه طابعا محايثا, لكن هذا الحاجز الوهمي عجز عن صد تلك النزعة الفطرية المتأصلة في الإنسان من أن تتجه نحو ملاذها الوحيد المتمثل بالدين بوصفه (( مصدر التفسير الأخصب والأثرى لمعنى الحياة والموت، وغير ذلك من الأسئلة الميتافيزيقية، وكل أسئلة المبدأ والمصير والخلود … إنّ الدين هو ما يروي الظمأ للمقدس، ويشبع الحاجة للخلود، بوصف الكائن البشري ينزع للكمال، وهو في توق أبدي للخلود، ولا يشبع الشغف بالكمال والخلود سوى الحق تعالى، وهو ما يحدّد الدين السبل للوصول إليه )). ( 59 ) وهذا ما كنا قد أوضحناه بالتفصيل – فيما تقدم – في دراستنا للفرضية الثانية من فرضيات الاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر.
السمة الثانية : الاحتواء ( القدرة على دمج العناصر المتحركة ضمن العناصر الثابتة )
يقول السيد الصدر : (( كثيرا ما يقول المشككون كيف يمكن أن تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية في نهاية القرن العشرين على أساس الإسلام مع ما طرأ على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بعد قرابة أربعة عشر قرنا من توسع وتعقيد وما يواجه إنسان اليوم من مشاكل نتيجة لذلك ؟
والجواب على ذلك أنّ الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحية دائما؛ ذلك أنّ الاقتصاد الإسلامي تمثله أحكام الإسلام في الثروة, وهذه الأحكام تشتمل على قسمين من العناصر :
أحدهما العناصر الثابتة : وهي الأحكام المنصوصة في الكتاب والسنة فيما يتصل بالحياة الاقتصادية.
والآخر العناصر المرنة والمتحركة : وهي تلك العناصر التي تستمد – على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف – من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة.
فهناك إذن في العناصر الثابتة ما يقوم بدور مؤشرات عامة تعتمد كأسس لتحديد العناصر المرنة والمتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة. ولا يستكمل الاقتصاد الإسلامي أو اقتصاد المجتمع الإسلامي – بتعبير آخر – صورته الكاملة إلا باندماج العناصر المتحركة مع العناصر الثابتة في تركيب واحد تسوده روح واحدة وأهداف مشتركة.
وعملية استنباط العناصر المتحركة من المؤشرات الإسلامية العامة تتطلب :
أولا : منهجا إسلاميا واعيا للعناصر الثابتة وإدراكا معمقا لمؤشراتها ودلالاتها العامة.
ثانيا : استيعابا شاملا لطبيعة المرحلة وشروطها الاقتصادية ودراسة دقيقة للأهداف التي تحددها المؤشرات العامة وللأساليب التي تتكفل بتحقيقها.
ثالثا : فهما فقهيا قانونيا لحدود صلاحيات الحاكم الشرعي ( ولى الأمر ) والحصول على صيغة تشريعية تجسد تلك العناصر المتحركة في إطار صلاحيات الحاكم الشرعي وحدود ولايته الممنوحة له.
ومن هنا كان التخطيط للحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي مهمة يجب أن يتعاون فيها مفكرون إسلاميون واعوان, ويكونون في نفس الوقت فقهاء مبدعون وعلماء اقتصاديون محدثون )). ( 60 )
دراسة السمة الثانية على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
يعالج ” السيد الطباطبائي ” مسألة العلاقة بين الثابت والمتغير في ضوء مفهوم الطبيعة البشرية, فهو يقول : (( إنّ الأحكام والقوانين التي يجب تنفيذها في المجتمع تنقسم من وجهة نظر الإسلام إلى نوعين، هما :
النوع الأول : الأحكام والقوانين التي لها جذر تكويني ثابت، مثل : احتياجات الإنسان الطبيعية التي تفضي إلى مقتضيات ثابتة غير قابلة للتغير؛ بحكم ارتباطها بالبنية التكوينية الثابتة للإنسان نفسه. فتبعا لوجود مثل هذه المقتضيات الثابتة والحاجات غير المتغيرة يجب أن تكون هناك أحكام ثابتة، وذلك من قبيل : الأحكام والقوانين ذات الصلة بالملكية والاختصاص، وأحكام المعاملات والوراثة، وأحكام الزواج والطلاق واعتبار الأنساب، وأحكام الحدود والقصاص ونظائر ذلك. ومن هذا القبيل : أحكام العبادات، التي ترتكز إلى جذر ثابت يتمثل برابطة الربوبية والعبودية، مما لا يمكن أن يطالها التغيير، أو ينالها الاهتزاز أبدا.
هذه السلسلة من الأحكام والقوانين هي بنفسها الشريعة الإسلامية، التي جاء بيان کلیاتها في القرآن الكريم، وتكفلت السنة النبوية ببيان جزئیاتها وتفاصيلها. هذا اللون من الأحكام ( الشريعة ) لا طريق لنسخه أو إبطاله بنص القرآن وصريح السنة.
النوع الثاني : الأحكام والقوانين ذات الصلة بالحياة اليومية للناس. ومثل هذه القوانين تكون بالضرورة محكومة بالتغيير، وذلك تبعا للتغيير والاختلاف الذي يطرأ على طرق الحياة ووسائل معاش الناس من يوم الى آخر؛ ومن عصر إلى عصر.
ومثال هذه الأنظمة المتغيرة : التحولات التدريجية التي طرأت على وسائل النقل، بحيث كان بديهيا أن يقود وجود الطرق البرية والبحرية والجوية إلى انبثاق أوضاع جديدة تستدعي بدورها إيجاد وتطبيق سلسلة من النظم الجديدة التي لم يكن لها حاجة في العصور السابقة )). ( 61 )
ومرة أخرى في تفسير الميزان يكرر الطباطبائي فيقول : (( ربما يقال : هب أن الإسلام لتعرضه لجميع شؤون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة، لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية، فالحياة الثقافية والمعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية، فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متبائنين، فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم ؟
وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى ؟ والجواب أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شؤونها، وإنما هو من حيث المصاديق والموارد، وبعبارة أخرى : يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ولباس يلبسه ودار يقطن فيه ويسكنه، ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان، ومجتمع يعيش بين أفراده وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك، وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنسان ذا هذه الفطرة والبنية، وما دام حياته هذه الحياة الإنسانية, والإنسان الأولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء، وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية، ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها…
وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر، بل أنطبق الأول على الآخر انطباقا، كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة، لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة، ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف، وأما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها، سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث. وأما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا وزمانا وتتغير سريعا بالطبع، کالأحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع، وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها، فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة؛ فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته، فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته، وفيما أمره إليه، فلوالي الأمر أن يعزم على أمور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم، مالية أو غير مالية، يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين، كما قال تعالى { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } (آل عمران: ۱5۹). كل ذلك في الأمور العامة. وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والأسباب التي لا تزال يحدث منها شيء، ويزول منها شيء غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة، ولا سبيل للنسخ إليها )). ( 62 )
(( وبهذا يدير الإسلام – عند الطباطبائي – حركة الحياة بالأحكام الثابتة والمتغيرة معا، ولا يديرها – كما يتصور بعض الناقدین – بالثوابت فحسب، بما يؤدي إلى جمودها واصطدامها في نهاية الطريق. وتنوع الإسلام في أحكامه بهذه الطريقة أمر عقلائي جدا نجده في مختلف القوانين البشرية أيضا، مثل الدستور والقوانين التفصيلية. واللافت هنا أن الطباطبائي يقر بأن الدستور لا يتوقع منه أن يحل التفاصيل اليومية للحياة، وكذا الشريعة، ولهذا تلجأ لنظام الشورى والولاية لفض هذه الإشكالية. هذه عصارة نظرية الطباطبائي التي كررها كثيرا في كتاباته، وهي تقوم – كما رأينا – على قاعدة العلاقة الوطيدة بين التشريعات الدينية والواقع التكويني للإنسان أو الإنسان الطبيعي والفطري، ومن ثم لا تقبل التغير؛ لأن الإنسان الطبيعي لا يتغير في حاجاته ولوازمه، بينما المتغيرات هي الأدوات والوسائل والجزئيات اليومية، وقد نظمتها الشريعة عبر الإحالة على قاعدة الولاية القائمة على الشورى، وهي تقبل التغير والتطوير والتبدل )). ( 63 )
لا شك في أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر تؤكّد أنّ تنوع الإسلام في أحكامه بهذه الطريقة أمر عقلائي جدا؛ لأنّ الاسلام لا يختلف في هذا الأمر عما هو موجود في مختلف القوانين البشرية المعمول بها اليوم، مثل الدستور والقوانين التفصيلية.
ولكن المشكلة التي نواجهها في هذه السمة أنّها تستند إلى مفهوم الطبيعة البشرية, فهل أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر تؤكد وجود ذلك المفهوم بحيث تضمن سلامة وصحة هذه السمة التي تستند إليه أم أنّها تنفيه وبذلك تبيّن عدم سلامة هذا السمة وصحتها ؟ وإذا كانت هذه المعطيات تؤكد وجود مفهوم الطبيعة البشرية, فهل أنّ الطبيعة البشرية – وبفعل ثورة التقنية الحيوية – معرضة للتغيير في المستقبل مما يجعل المذهب الاقتصادي الذي يستند إليها غير قادر على استيعاب نمط الحياة الانسانية الذي يترتب على هذا التغيير أم أنّها غير قابلة للتغير بحيث تبقى قدرة المذهب الاسلامي على معالجة أمور الحياة المتعلقة بالإنسان قائمة ؟
وقد يقال : ولكن ما يرد على الاسلام هنا يرد على غيره من الدساتير المعمول بها اليوم فمعظم هذه الدساتير يستند في أحكامه على الطبيعة البشرية, فلماذا إثارة هذه المشكلة على أنّها تتعلق بالمذهب الاقتصادي الاسلامي دون غيره.
الجواب : إن الدساتير المعمول بها اليوم وإن كانت تستند في أحكامها على الطبيعة البشرية, إلا أنّها – من جهة – لا تدعي الفهم الكامل للطبيعة البشرية, ومن جهة أخرى لا تؤكد على أنّ ثوابتها تنسجم تماما مع الطبيعة البشرية, ولهذا هي تقبل المراجعة والتغيير دائما, ومن جهة ثالثة فإنّها لا تواجه مشكلة فيما لو أنّ التقنية الحيوية قد تساعد على تغيير الطبيعة البشرية لأنّها ببساطة سوف تغير أحكامها بحسب المتغيرات التي تطرأ على الطبيعة الشرية أنذاك دون أن تشعر بأي حرج.
وهذا ما لا ينطبق على المذهب الاقتصادي الاسلامي الذي يؤكد, من جهة, على أنّ الاسلام يتوفر على فهم كامل للطبيعة البشرية, وأنّ ثوابته تنسجم تماما معها, ولهذا هي لا تقبل المراجعة والتغيير, ثم أنّه سوف يواجه مشكلة فيما لو أنّ التقنية الحيوية قد تساعد على تغيير الطبيعة البشرية لأنّه يعتبر أن أحكامه الثابتة قطعية وتصلح لكل زمان ومكان, ولذلك فإن تغيير الطبيعة الشرية, سوف يعني أن الاسلام غير صالح لقيادة البشرية بعد ذلك التغيير لأنّ أحكامه مبنية على ما هو سابق على تغيير تلك الطبيعة ولا صلة لهذه الأحكام بما هو لاحق للتغيير.
وبالعودة إلى الأسئلة التي قد يشكل بها على المذهب الاقتصادي الاسلام نقول :
أما بالنسبة للسؤال الأول : فـ (( إنّ مفهوم الطبيعة البشرية كان محلا لجدل غير عادي طوال القرنين الماضيين. وقد دارت أغلب المناقشات التقليدية حول ذلك السؤال القديم قدم الدهر، وهو : أين نرسم الخط الفاصل بين الطبيعة والتنشئة ؟ وقد استبدل هذا الخلاف بجدل آخر في أواخر القرن العشرين، وفيه تحول التوازن بقوة نحو الحجج المتعلقة بالتنشئة، حيث جادل كثيرون بقوة بان السلوك البشري مرن لدرجة تجعل الطبيعة البشرية مفهوما غير ذي مغزي. في حين أن التطورات الحديثة في علوم الحياة زادت من صعوبة الدفاع عن الموقف الأخير.
يتعلق قدر كبير مما عرفناه في السنوات الأخيرة عن الطبيعة البشرية بالطرق النمطية لنوعنا البشري التي بها نفهم ونتعلم ونتطور فكريا، يمتلك البشر طريقتهم الخاصة في المعرفة، وهي تختلف عن نظيرتها في القرود والدلافين، وهي طريقة قابلة للتعديل فيما يختص بالمعارف التي يمكن تراكمها في نطاقات محددة.
تعد اللغة من بين أوضح الأمثلة على ذلك؛ فاللغات الحية الحالية تقليدية، ويمثل عدم الفهم المتبادل بين اللغات هوة سحيقة تفصل بين الجماعات البشرية. ومن ناحية أخرى، فإن القدرة على تعلم اللغات أمر عام، وتحكمه خصائص بيولوجية معينة للدماغ البشري، في عام 1959م، اقترح ” نعوم تشومسكي ” وجود ” بني عميقة ” تستبطن بناء الجملة في جميع اللغات؛ أما فكرة أن هذه البنى العميقة تمثل أوجها فطرية ومبرمجة وراثيا لتطور الدماغ، فهي مقبولة الآن على نطاق واسع. والجينات، لا الثقافة، هي ما يضمن ظهور القدرة على تعلم اللغات عند نقطة ما خلال السنة الأولى من نمو الطفل، ثم تتناقص عند وصول الطفل إلى سن المراهقة.
وقد تلقت فكرة وجود صور فطرية من المعرفة البشرية قدرا هائلا من المساندة التجريبية في السنين الأخيرة، لكنها واجهت أيضا قدرا كبيرا من المقاومة، ويرجع سبب هذه المقاومة وخصوصا في العالم الأنجلو-ساکسوني – إلى التأثير المستديم لجون لوك والمدرسة التجريبية البريطانية التي أسسها. بدأ لوك كتابة مقالة في الفهم البشري بتوکيد عدم وجود أفكار فطرية في العقل البشري، وعلى وجه الخصوص عدم وجود أفكار أخلاقية فطرية، هذا هو اللوح الأملس الشهير للوك؛ فالدماغ ضرب من الحواسيب العمومية الاستعمالات التي يمكنها استيعاب ومنابلة البيانات الحسية التي تعرض لها، ولكن بنوك الذاكرة فيه تكون خاوية أساسا عند الولادة.
ظل لوح لوك الأملس فكرة جذابة بقوة حتى منتصف القرن العشرين، عندما تعدته المدرسة السلوكية لجون واطسون, وبي إف سكينر، وقد طرح هذا الأخير صيغة أكثر تطرفا تنادي بعدم وجود أنماط من التعلم خاصة بالنوع، وأن الحمائم، على سبيل المثال يمكن تعليمها كيف تتعرف على نفسها في المرآة بالطريقة نفسها التي تتبعها مع القرود والبشر إذا توافرت للحمائم سبل الثواب والعقاب الملائمة، أما الأنثروبولوجيا الثقافية المعاصرة، فهي تقبل كذلك افتراض اللوح الأملس، فقد جادل علماء الأنثروبولوجيا، ضمن أشياء أخرى، بأن مفاهيم الزمن واللون ما هي إلا بنی اجتماعية غير موجودة في كل الثقافات. خلال الجبلين الماضيين كان قدر كبير من التركيز البحثي في هذا المجال، ومجال الدراسات الثقافية الوثيق الصلة به، قد وجه إلى استقصاء غير المعتاد، والشاذ، وغير المتوقع في الممارسات البشرية الثقافية وفقا لاقتراض لوك القائل بأن استثناءا واحدا لقاعدة عامة يبطل هذه القاعدة.
أما اليوم، فتتعرض فكرة اللوح الأملس لهجوم كاسح، فقد حلت الأبحاث في مجالي العلوم العصبية الإدراكية المعرفية وعلم النفس محل اللوح الأملس من خلال رؤية تقول بأن الدماغ كعضو نموذجي ممتلئ بینی إدراكية عالية التكيف، وأغلبها مقتصر على الجنس البشري على نحو فريد. في الواقع، هناك ما قد يرقى لكونه أفكارا فطرية، أو لنكون أكثر دقة أنماطا معرفية تخص النوع على نحو نمطي، واستجابات عاطفية تجاه المعرفة تخص أيضا النوع على نحو نمطي )). ( 64 )
والجدير بالذكر : ليس المذهب الاقتصادي الاسلامي هو المذهب الوحيد الذي يعالج مفاهيمة بالاستناد إلى الطبيعة البشرية, حيث تشير المعطيات إلى أن المؤسسات الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية المعاصرة حظيت بالنجاح لأنها بنيت على افتراضات عن الطبيعة البشرية أكثر واقعية بكثير من افتراضات منافساتها … فالطبيعة البشرية هي ما يمنحنا الحس الأخلاقي، ويزودنا بالمهارات الاجتماعية التي تمكننا من الحياة في المجتمع، كما تعمل كأساس لمناقشات فلسفية أكثر تعقيدا عن الحقوق، والعدالة، والفضيلة … هناك ارتباط حميم بين الطبيعة البشرية والأفكار البشرية حول الحقوق، والعدالة، والفضيلة، كانت تلك وجهة النظر التي تبناها الموقعون على إعلان الاستقلال، ضمن آخرين، وقد اعتقد هؤلاء بوجود حقوق طبيعية، أي تلك الحقوق التي تمنحنا إياها طبائعنا البشرية … فالحقوق هي أساس النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي، وهي مفتاح التفكير المعاصر حول القضايا الأخلاقية والمعنوية، كما أن أية مناقشة جادة لحقوق الإنسان لابد من أن ترتكز في النهاية على بعض الفهم لغايات الإنسان أو أغراضه التي لابد من أن تستند بدورها دائما إلى مفهوم للطبيعة البشرية … وكلما ازداد ما بخیرنا به العلم عن الطبيعة البشرية، ازدادت المضامين المكتنفة في حقوق الإنسان، وبالتالي تلك التي تتعلق بتصميم المؤسسات والسياسات العامة التي تحمي هذه الحقوق …. ( ص65 )
أما فيما يتعلق بالسؤال الثاني : فـ (( بالرغم من اكتمال مشروع الجينوم البشري، لا تزال التقنية الحيوية المعاصرة بعيدة اليوم كل البعد عن التمكن من تعديل الدنا البشري بالطريقة التي تعدل بها دنا الذرة أو ماشية اللحوم. وقد يجادل بعض الناس بأننا لن نحقق مثل هذه المقدرة أبدا، وأنّ الاحتمالات النهائية للتقنيات الوراثية قد بالغ في تضخيمها بعض العلماء الطموحين، وبعض شركات التقنية الحيوية التي تسعى إلى تحقيق الربح السريع. كما أن تغيير الطبيعة البشرية أمر لا هو ممكن تحقيقه، كما يقول البعض، ولا هو مدرج أصلا في أجندة التقنية الحيوية المعاصرة، نحن نحتاج، إذن، إلى تقييم متوازن لما يتوقع لهذه التقنية أن تحققه، وإلى فهم المعوقات التي قد تواجهها في نهاية المطاف … لا يعني التعرف البسيط على الجينات الموجودة في الجينوم أن أحدا يعرف مهمة هذه الجينات، وقد تحقق قدر هائل من التقدم خلال العقدين الماضيين فيما يتعلق باکتشاف الجينات المرتبطة بالتليف الكيسي، وفقر الدم المنجلي، ورقص هنتننجتون، ومرض تاي زاكس، وما شابهها، ولكن هذه كلها تميل لأن تكون اضطرابات بسيطة نسبيا يمكن فيها إرجاع العملية المرضية إلى أليل خاطئ، أو متوالية مرمزة لجين واحد.
وتنتج أمراض أخرى عن جينات متعددة تتفاعل بطرق معقدة؛ فبعض الجينات يتحكم في تعبير ( أي تنشيط ) جينات أخرى، والبعض يتفاعل مع البيئة بطرق معقدة؛ والبعض ينتج أثرين أو أكثر، والبعض يسبب آثارا لا تظهر إلا في مرحلة متأخرة من دورة حياة الكائن الحي. أما عندما يتعلق الأمر بالحالات والسلوكيات الأكثر تعقيدا، مثل الذكاء، والعدوانية، والنشاط الجنسي وما شابهها، فنحن لا نعلم اليوم أكثر من أن هناك درجة ما من السببية الوراثية، كما يتضح من الدراسات التي أجريت في مجال ورائيات السلوك، وليست لدينا أية فكرة عن الجينات المسؤولة في عاقبة الأمر، لكننا نشك في أن العلاقات السببية معقدة بشكل استثنائي … نحن لا نمتلك الآن القدرة على تعديل الطبيعة البشرية بأية طريقة ذات شأن، وقد نكتشف أن الجنس البشري لن يتوصل إلى هذه القدرة على الإطلاق. ( ص66 )
وها هنا قد يقال أنك تعتمد في إثباتك أنّ الطبيعة البشرية غير معرضة للتغير بفعل التقنية الحيوية على نصوص نقلتها من كتاب ” فوكوياما ” ( مستقبلنا بعد البشري ), ونحن حينما نقرأ هذا الكتاب نجد أن ” فوكوياما ” يرى أن تغيير الطبيعة البشرية أمر ممكن الوقوع, فلماذا لم تنقل عنه ذلك ؟
أقول : من الصحيح أن ” فوكوياما ” يرى أنّ تغيير الطبيعة البشرية هو أمر ممكن, ولكنه يعني بالإمكان هنا هو الإمكان المنطقي, وليس الإمكان العلمي, فالمعطيات العلمية لا تشير أبدأ أنّ إلى أنّ تغيير الطبيعة البشرية هو أمر ممكن من وجهة نظر العلم, وهذا هو ما نقلناه عنه فيما تقدم بالذات قوله : ” نحن لا نمتلك الآن القدرة على تعديل الطبيعة البشرية بأية طريقة ذات شأن، وقد نكتشف أن الجنس البشري لن يتوصل إلى هذه القدرة على الإطلاق “.
السمة الثالثة : الاقتصاد الاسلامي اقتصاد واقعي من حيث الغاية والطريقة
يقول السيد الصدر : (( يُعدّ الاقتصاد الاسلامي اقتصادا واقعيا في غاياته التي يرمي إلى تحقيقها، وفي الطريقة التي يتخذها لذلك. فهو اقتصاد واقعي في غايته، لأنه يستهدف في أنظمته وقوانينه الغايات التي تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة، ويحاول دائما أن لا يرهق الانسانية في حسابه التشريعي، ولا يحلق بها في أجواء خيالية عالية فوق طاقاتها وإمكاناتها. وإنّما يقيم مخططه الاقتصادي دائما على أساس النظرة الواقعية للإنسان، ويتوخى الغايات الواقعية التي تتفق مع تلك النظرة. وهو واقعي في طريقته أيضا, فكما يستهدف غايات واقعية ممكنة التحقيق، كذلك يضمن تحقيق هذه الغايات ضمانة واقعية مادية، ولا يكتفي بضمانات النصح والتوجيه التي يقدمها الوعاظ والمرشدون، لأنه يريد أن يخرج تلك الأهداف الى حيز التنفيذ، فلا يقنع بإيكالها إلى رحمة الصدف والتقادير. فحين يستهدف مثلا إيجاد التكافل العام في المجتمع، لا يتوسل اليه بأساليب التوجيه واستثارة العواطف فحسب، وإنما يسنده بضمان تشريعي، يجعله ضروري التحقيق على كل حال )). ( 67 )
دراسة السمة الثالثة في ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
إنّ الحكم على واقعية أو عدم واقعية أي مذهب اقتصادي انطلاقا من المعطيات يختلف باختلاف ما إذا كان المذهب الاقتصادي مطبق أم أنّه غير مطبق على أرض الواقع, فإذا كان المذهب مطبقا فإنّ المعطيات في هذه الحالة سوف تكون متوفرة, ويمكن على ضوئها الحكم فيما إذا كانت أنظمة هذا المذهب وقوانينه تنسجم أم لا تنسجم مع واقع الإنسانية، بطبيعتها ونوازعها وخصائصها العامة، وفيما إذا كان هذا المذهب يضمن تحقيق هذه الأنظمة والقوانين ضمانة واقعية مادية أم أنّه يكتفي بضمانات النصح والتوجيه.
أما إذا كان المذهب غير مطبق فإن المعطيات المباشرة سوف تكون غير متوفرة لنحكم في ضوئها على واقعيته أم عدم واقعيته, ولكن يمكن الاعتماد في هذه الحالة على المعطيات المتوفرة من تطبيق المذاهب الاقتصادية المنافسة له, فإذا ما أثبتت تلك المعطيات أنّ أنظمة وقوانين المذاهب المنافسة غير واقعية ترجحت لنا واقعية أنظمة وقوانين المذهب المقابل الذي لم تتوفر له فرصة التطبيق. وهذا هو بعينه ما فعله ” السيد الصدر ” في كتابه ” اقتصادنا ”
ونحن بدورنا – هنا – سوف نثبت واقعية المذهب الاقتصادي الاسلامي من طريق دراسة بعض القضايا ذات الصلة بالاقتصاد التي اختلف حولها المذهب الاقتصادي الاسلامي مع المذاهب المنافسة, والتدليل على أنّ المعطيات والوقائع والحقائق – على المستوى العالمي – قد أكدت عدم واقعية وجهات نظر المذاهب المنافسة تجاه هذه القضايا, بشكل يثبت من خلاله واقعية وجهة نظر المذهب الاقتصادي الاسلامي تجاهها.
وسنبدأ الآن بدراسة مختصرة لوجهات النظر المختلفة بين المذهب الاقتصادي الاسلامي والمذاهب المنافسة الأخرى حول ” قضية أصالة الفرد أم المجتمع ” على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر لنلاحظ كيف أن المذهب الاقتصادي الاسلامي كان هو المذهب الوحيد الذي أبدى وجهة نظر واقعية حول هذه القضية.
يعرف الجميع أنّ هناك ثلاثة مذاهب اقتصادية رئيسية اختلفت حول هذه القضية :
1 – المذهب الماركسي : وموقفه أنّه غلب النزعة الاجتماعية على النزعة الفردية.
2 – المذهب الرأسمالي : وموقفه أنّه غلب النزعة الفردية على النزعة الاجتماعية.
3 – المذهب الاسلامي : وموقفه أنّه وازن بين النزعتين.
ومن الواضح أنّنا لسنا بحاجة لدراسة موقف المذهب الماركسي من هذه القضية, إذ أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر من وقائع ودراسات قد أثبتت بشكل واضح فشل هذا المذهب عندما أتى دور التطبيق. ولذلك سوف نركز هنا على دراسة المذهب الرأسمالي حيث سيتضح لنا أنّ المعطيات المعاصرة تؤكد أنّ المذهب الاقتصادي الرأسمالي لم يكن واقعيا حينما اتجه إلى تغليب النزعة الفردية على النزعة الاجتماعية :
في كتابه ” عصر الفراغ الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة ” يقول ” جيل ليبوفتسكي ” – واصفا الحال التي آل إليها المجتمع الرأسمالي ذو النزعة الفردية – : (( لم نكن لنجمع المقالات والدراسات التالية في كتاب واحد إلا لكونها جميعا تطرح، وبمستويات متباينة، الإشكال العام نفسه والمتمثل في الرجة التي هزت المجتمع والأعراف والفرد المعاصر في زمن الاستهلاك الجماهيري، وفي بروز نمط جديد من التنشئة الاجتماعية والفردية أحدث قطيعة مع النمط السائد منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر.
وتجتهد هذه النصوص في الكشف عن هذا التحول التاريخي الذي لا يزال مستمرا. هذا مع اعتبار أن عالم الأشياء والصور والمعلومات فضلا عن القيم المتعية والمتساهلة، قد دفعوا إلى ظهور شكل جديد من ضبط السلوكيات، وقادوا في الوقت ذاته إلى تنوع غير مسبوق على مستوى أنماط العيش، وإلى تعويم منهجي للفضاء الخاص وللمعتقدات والأدوار، وبعبارة أخرى إلى مرحلة جديدة من تاريخ الفردانية الغربية. إن عصرنا لم يفلح في تنحية ” الأخرويات ” الثورية جانبا إلا من خلال إنجاز ثورة متواصلة طالت الحياة اليومية والفرد ذاته : خصخصة واسعة النطاق، تأكل الهويات الاجتماعية، سخط إيديولوجي وسياسي، وتزعزع متسارع لاستقرار الشخصيات. إننا نعيش ثورة فردانية ثانية )). ( 68 )
يقول ” فوكوياما ” : (( اعتاد الأميركيون الاحتفاء بفردانيتهم وتنوعهم الإثني لدرجة أنّهم يتناسون أحيانا أنّ كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، حتى في الأمور الإيجابية … الإغراق في الفردانية والاختلاف الأثني قد يؤدي إلى حالة اجتماعية شاذة لا يربط المواطنين فيها إلا النظام القضائي والقانوني العام، بحيث لا تجمعهم قيم مشتركة, وبالتالي لا تتوفر لديهم أسس الثقة المتبادلة، أو حتى لغة مشتركة يمكن أن يتواصلوا من خلالها )). ( 69 )
وبعد أن سرد ” فوكوياما ” الواقع الاجتماعي الأليم الذي تعيشه الولايات المتحدة الأميريكية نتيجة تزايد النزعة الفردانية, انتقل ليبيّن أنّ النظام الرأسمالي هو السبب الرئيس وراء ذلك الأمر :
(( إن أسباب تزايد النزعة الفردية في أميركا على حساب المجتمع كثيرة ومتنوعة، وعلى رأسها النظام الرأسمالي ذاته. الرأسمالية المعاصرة، كما أشار جوزف تشيمبيتر، هي بطبعها عملية ” تدمير خلاق “، لا يتوقف حيث تؤدي الفتوحات التكنولوجية والعلمية إلى توسع الأسواق التجارية وبالتالي قيام أشكال جديدة للتنظيم على أنقاض الصيغ القديمة التي يتم سحقها بقسوة، بما فيها صيغ التعاون والتضامن الاجتماعي السابقة … الرأسمالية تخلق وتدمر )) . ( 70 )
في الحقيقة : إنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر لا تبرهن فقط على واقعية الاقتصاد الاسلامي في مفهومه عن التوازن بين النزعة الفردية والاجتماعية, بل أنّ هذه المعطيات تكاد تؤكد على واقعيّة جميع أنظمته وقوانينه؛ فالاقتصاد الاسلامي على وفق هذه المعطيات كان واقعيا حينما أكد على أهمية ودور البعد الثقافي في الحياة الاقتصادية, كما بينا ذلك بالتفصيل في دراستنا للفرضية الأولى من فرضيات الاقتصاد الإسلامي. وكان الاقتصاد الإسلامي واقعيا أيضا حينما لم يهمل البعد الديني مثلما فعل المذهبان الاقتصاديان الآخران ( الرأسمالي والاشتراكي ), كما بينا ذلك بالتفصيل في دراستنا للفرضية الثانية والسمة الأولى من فرضيات وسمات الاقتصاد الإسلامي.
وسنلاحظ من خلال دراستنا – فيما سيأتي – لسمات ومبادئ الاقتصاد الإسلامي أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر تتجه إلى تأكيد واقعية ما تتضمنه تلك السمات والمبادئ على مستوى الغايات وعلى مستوى الطريقة.
السمة الرابعة : الاقتصاد الاسلامي اقتصاد أخلاقي من حيث الغاية والطريقة
(( يُعدّ الاقتصاد الاسلامي اقتصادا أخلاقيّاً في غاياته التي يرمي إلى تحقيقها، وفي الطريقة التي يتخذها لذلك، والسمة الأخلاقية تعني – من ناحية الغاية – : إنّ الإسلام لا يستمد غاياته التي يسعى إلى تحقيقها في حياة المجتمع الاقتصادية من ظروف مادية وشروط طبيعية مستقلة عن الإنسان نفسه، كما تستوحي الماركسية غاياتها من وضع القوى المنتجة وظروفها. وإنّما ينظر إلى تلك الغايات بوصفها معبّرة عن قيم عملية ضرورية التحقيق من ناحية خلقية. فحين يقرر ضمان حياة العامل مثلا، لا يؤمن بأنّ هذا الضمان الاجتماعي الذي وضعه نابع من الظروف المادية للإنتاج مثلا، وإنّما يعتبره مثلا لقيمة عملية يجب تحقيقها.
وتعني السمة الخلقية – من ناحية الطريقة – : أنّ الإسلام يهتم بالعامل النفسي، خلال الطريقة التي يضعها لتحقيق أهدافه وغاياته، فهو في الطريقة التي يضعها لذلك، لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب – وهو أن تحقق تلك الغابات – وإنّما يعني بوجه خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات. فقد يؤخذ من الغني مال لإشباع الفقير مثلا، ويتأتى بذلك للفقير ان يشبع حاجاته، وتوجد بذلك الغاية الموضوعية التي يتوخاها الاقتصاد الإسلامي من وراء مبدأ التكافل، ولكن هذا ليس هو كل المسألة في حساب الإسلام، بل هناك الطريقة التي تم بها تحقيق التكافل العام. لان هذه الطريقة قد تعني مجرد استعمال القوة في انتزاع ضريبة من الأغنياء لكفالة الفقراء. وهذا وإن كفي في تحقيق الجانب الموضوعي من المسألة – أي إشباع الفقير – ولكن الإسلام لا يقر ذلك، ما دامت طريقة تحقيق التكافل مجردة عن الدافع الخلقي والعامل الخيّر في نفس الغني، ولأجل ذلك تدخّل الاسلام، وجعل من الفرائض المالية – التي استهدف منها إيجاد التكافل – عبادات شرعية يجب أن تنبع عن دافع نفسي نيّر، يدفع الإنسان إلى المساهمة في تحقيق غايات الاقتصاد الاسلامي، بشكل واع مقصود، طالبا بذلك رضا الله تعالى والقرب منه.
ولا غرو أن يكون للإسلام هذا الاهتمام بالعامل النفسي، وهذا الحرص على تكوينه روحيا وفكريا، طبقاً لغاياته ومفاهيمه، فإن لطبيعة العوامل الذاتية التي تعتلج في نفس الإنسان، أثرها الكبير في تكوين شخصية الإنسان، وتحديد محتواه الروحي، كما أن للعامل الذاتي أثره الكبير على الحياة الاجتماعية ومشاكلها وحلولها، وقد بات من الواضح لدى الجميع اليوم أنّ العامل النفسي يلعب دورا رئيسيا في المجال الاقتصادي، فهو يؤثر في حدوث الأزمات الدورية التي يضج من ويلاتها الاقتصاد الأوروبي, ويؤثر أيضا على منحنى العرض والطلب، وفي الكفاية الإنتاجية للعامل إلى غير ذلك من عناصر الاقتصاد. فالإسلام إذن لا يقتصر – في مذهبه وتعاليمه – على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وإنّما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين المحتوى الداخلي وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي، ولا يكتفي في طريقته أن يتخذ أي أسلوب يكفل تحقيق غاياته، وإنّما يمزج هذا الأسلوب بالعامل النفسي والدافع الذاتي الذي ينسجم مع تلك الغايات ومفاهيمها )). ( ص71 )
دراسة السمة الرابعة على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
سوف ندرس هذه السمة على مستويين : الأول نبحث فيه عما إذا كان الدين الاسلامي الذي يستمد منه الاقتصاد الاسلامي مفاهيمه وأفكاره هو دين أخلاقي أم أنّه يتعارض مع الأخلاق, والثاني نبحث فيه عما إذا كانت هناك قيمة فعلية واقعية للأخلاق وبالتالي تكون هذه السمة معتبرة ومعتد بها أم أنّ الأخلاق محض كلام فارغ لا قيمة فعلية وواقعية لها, وإنّما هي مجرد تعبير عن مشاعر أو رغبات كما ترى الوضعية المنطقية أم أنّ الأخلاق حتى وإن كانت لها قيمة فعلية وواقعية إلا أنّها غير ضرورية لضمان مصلحة المجتمع, بحيث يمكن الاستغناء عنها من طريق توفير الحريات للأفراد, وإن كان الناس أحرارا في التقيد بتلك القيم ورفضها, كما ترى الرأسمالية, وبالتالي فإنّ هذه السمة – بحسب القولين الأخيرين – لا يعتد بها.
أما فيما يتعلق بالمستوى الأول : فإنّ أحد المواضيع المهمة جدا والحيوية في الفكر العالمي المعاصر هي مسألة العلاقة بين الدين والأخلاق, والبحث في هذه المسألة يتضمن جدلا كبيرا بين الآراء المطروحة فيه, فمن جهة أولى : هناك خلاف بين من يعتقد بهوية واحدة بين الدين والأخلاق في مقابل من يعتقد بالتمايز بينهما, وهم على صنفين : منهم من يعتقد بالتمايز التام وعدم وجود أي ارتباط ونسبة بينهما, ومنهم من يعتقد بوجود ارتباط بين الاثنين, وهؤلاء بدورهم ينقسمون إلى أربعة طوائف, فبعضهم يرى بأن العلاقة بين الدين والأخلاق هي علاقة التنافر والتضاد, وبعضهم يرى هذا التضاد بشكل جزئي, وبعضهم يقول بالمصالحة الجزئية, ورابع يقول بالمصالحة الكلية. ومن جهة ثانية يدور الخلاف في مورد حاجة كل من الدين والأخلاق إلى الآخر, وهنا توجد أيضا أقوال متعددة يمكن تقسيمها إلى قسمين : حاجة الأخلاق إلى الدين وحاجة الدين إلى الأخلاق, وفي كل من هذين القسمين عدة أقوال. ومن جهة ثالثة يدور الخلاف حول الإجابة عن السؤال الآتي : أيّ واحد من الأخلاق والدين هو الهدف والغاية, وأيهما يعدُّ وسيلة.
وبغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بين المسلمين حول هذه المسائل فإنّهم يتفقون جميعا على أنّ (( الاسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق, وبالغ في تربية الناس عليها )). ( 72 ) ثم أنّ الاقتصاد الإسلامي اقتصاد واقعي – كما درسنا وأثبتنا ذلك فيما تقدم – يراعي في أنظمته وقوانينه متطلبات الإنسان وحاجاته المادية والمعنوية, ولا شك في أنّ الحاجات الأخلاقية تأتي في مقدمة الحاجات المعنوية, ولا يمكن للإسلام – بحكم واقعيته تجاهلها – فضلا عن أنّ كل ما في هذا البحث يؤكد الطابع الأخلاقي للاقتصاد الإسلامي.
نعم, يوجد هناك من يشكك في الطابع الأخلاقي لبعض الأحكام الإسلامية, ولكن التشكيك في جزء بسيط من هذه الأحكام لا يضر بالطابع الأخلاقي العام للإسلام, فضلا عن أنّ هذا التشكيك ليس في محله, فهو نابع إما عن عداء وخصومة أو من سوء فهم أو نتيجة لسوء التطبيق عند بعض الجماعات التي تنسب نفسها للإسلام, وفي الحقيقة هذه المسألة يطول فيها الحديث بما لا يتسع له مجال هذا البحث, ثم أنّها من أكثر المسائل التي تناولتها بالبحث المفصل العديد من الدراسات الاسلامية المعاصرة التي أخذت على عاتقها الرد على مثل هذه الافتراءات والشبهات وإثبات الطابع الأخلاقي للأحكام الاسلامية.
أما بالنسبة للمستوى الثاني : فإنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر قد أثبت بشكل لا لبس فيه (( أنّنا نعيش في هذا العصر الحاجة إلى الحياة الأخلاقية أكثر وأشد من العصور الماضية, وعلى امتداد التاريخ البشري كان الإنسان يحتاج إلى الحياة الأخلاقية, ولم تكن مقولة الأخلاق والحياة الأخلاقية أمراً زائداً أو ترفاً فكرياً للبشرية, ولكن في العصر الحديث أي ما بعد الحرب العالمية الثانية ازدادت حاجة البشر إلى الحياة الأخلاقية أكثر من الماضي, بمعنى أنّنا اليوم لا نحتاج فقط إلى الأخلاق من تلك الجهة العامة التي كان يعيشها البشر على امتداد التاريخ, بل أنّ هذه الحاجة ازدادت واشتدت لأسباب عديدة ومتنوعة )). ( 73 )
يشهد عصرنا الحالي عودة للأخلاق، بعد أن كان هجرها قسم كبير من المفكرين في فترة ما بين الحربين العالميتين. ( 74 ) إذ (( تود نهاية هذا القرن، ليس دون تباه أحيانا، أن تتعين تحت الرعاية الملاطفة لـ ” عودة الأخلاقية “، وكما بتناقض غريب مع الجو السائد فإن خطاب القيم يُعلن عن نفسه في كل مكان : في انبعاث المنظمات الإحسانية، في المعارك ضد العنصرية والإقصاء، في متطلبات أدبيات أكثر صرامة بالنسبة لوسائل الاعلام والاتصال، في تخليق الحياة الاقتصادية والسياسية، في الانشغال بالبيئة، في صعود سلطة القضاة، في الأخلاقية البيولوجية، في الصراع من أجل حماية الأقليات ضد التحرش الجنسي … إنّ اللائحة لا تنتهي عن هذه الأوامر المطلقة الجديدة التي قد يمكنها فيما يبدو أن تجعل فكرة انشغال جديد ومعمم من أجل الخير مقبولة )). ( 75 ) نعم, كل شيء اليوم يبدو أنّه يُعلن العودة للفلسفة الأخلاقية النظرية : نمو تیارات فكرية جديدة، اعتراف بالجدل الأخلاقي وتعدد المناقشات. وعلى هذا النحو يفيد التفكير القيمي والأخلاقي من عناية طريفة. أخلاق نظرية حياتية ، أخلاق نظرية تجارية، إرادة إضفاء الصبغة الأخلاقية النظرية على الشؤون العامة، أو الشؤون السياسية، الأخلاق النظرية والمال. كل شيء يجري كما لو أنّ السنوات الراهنة كانت سني تجدّد أخلاقي أو كما يعبّر ” فيري ” : (( كل شيء يتم كما لو كان الشعور بالمقدس رغم ” موت الله ” لا يزال قائما )). ( 76 ) ، أجل إنّ الأخلاق النظرية تحتل ” المنزلة الأولى ” على مستوى الفكر العالمي، وإنّ الطلب الأخلاقي يبدو أنه ينمو نموا لا محدودا. ( 77 )
السمة الخامسة : الاقتصاد الاسلامي جزء من صيغة اسلامية عامة تستند لأرضيّة خاصة بها فهو غير قابل للتطبيق إلا في إطار هذه الصيغة العامة
يقول السيد الصدر : (( يجب أنْ نعي الاقتصاد الاسلامي بوصفه جزءا من الصيغة الاسلامية العامة التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع, وهذه الصيغة العامة لها أرضية خاصة بها تتكون من العقيدة ( وهي القاعدة المركزية في التفكير الاسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصفة عامة ) والمفاهيم ( التي تعكس وجهة نظر الاسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة ) والعواطف والأحاسيس التي يتبنى الاسلام بثها وتنميتها إلى صف تلك المفاهيم.
وعندما يستكمل المجتمع الإسلامي أرضيته وصيغته العامة، عندئذ فقط نستطيع أن نترقب من الاقتصاد الإسلامي أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية وأن يضمن للمجتمع اسباب السعادة والرفاه، وأن نقطف منه أعظم الثمار. وأما أن ننتظر من الرسالة الإسلامية الكبرى أن تحقق كل أهدافها من جانب معين من جوانب الحياة، إذا طبقت في ذلك الجانب بصورة منفصلة عن سائر شعب الحياة الأخرى فهذا خطأ؛ لأن الارتباط القائم في التصميم الإسلامي الجبار للمجتمع بين كل جانب منه وجوانبه الأخرى يجعل شأنه شان خريطة يضعها أبرع المهندسين لإنشاء عمارة رائعة، فليس في إمكان هذه الخريطة أن تعكس الجمال والروعة كما أراد المهندس إلا إذا طبقت بكاملها. وكذلك التصميم الاسلامي، فإن الاسلام اشترع نهجه الخاص به، وجعل منه الأداة الكاملة لإسعاد البشرية، على أن يطبق هذا النهج الإسلامي العظيم في بيئة إسلامية قد صيغت على أساس الاسلام في وجودها وأفكارها وكيانها كله وأن يطبق كاملاً غير منقوص يشد بعضه بعضا، فعزل كل جزء من النهج الاسلامي عن بيئته وعن سائر الأجزاء معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الأسمى، ولا يعتبر هذا طعنا في التوجيهات الاسلامية، أو تقليلا من كفاءتها وجدارتها بقيادة المجتمع فإنها في هذا بمثابة القوانين العلمية التي تؤتي ثمارها متى توافرت الشروط التي تقتضيها هذه القوانين )). ( 78 )
وفي هذا السياق يحذر السيد الصدر (( من خداع التطبيق باعتبار أنّ المذهب الاقتصادي في الاسلام قد دخل حياة المجتمع بوصفه النظام السائد في عصر النبوة، وعاش على صعيد التطبيق مجسدا في واقع العلاقات الاقتصادية التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع الإسلامي يومذاك. ولأجل هذا يصبح من الممكن – خلال عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي – أن ندرسه ونبحث عنه في الصعيد التطبيقي كما ندرسه ونبحث عنه على الصعيد النظري. فإن التطبيق يحدد ملامح الاقتصاد الإسلامي وخصائصه، كما تحددها نصوص النظرية في مجالات التشريع.
ولكن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي، لأن التطبيق لنص تشريعي في ظرف معين قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النص، ولا أن يصور مغزاه الاجتماعي كاملا، فيختلف الهام التطبيق ومعطاه التصوري للنظرية عن المعطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها. ومرد هذا الاختلاف الى خداع التطبيق لحواس الممارس الاكتشافية، نتيجة لارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة. فالنظرية إذن لا تبرز وجهها كله من خلال التطبيق الذي عاشته، والفرد الذي عاش تطبيقها لم يتجل له وجهها الكامل خلال المشاكل والعمليات التي مارسها في حياته، وإنما يبدو ذلك الوجه الكامل من خلال النصوص بصيغها العامة المحددة )). ( 79 )
(( إن المذهب الاقتصادي في الإسلام يرتبط على هذا الأساس ارتباطا كاملا بنظام الحكم في مجال التطبيق، فما لم يوجد حاكم او جهاز حاكم يتمتع بنفس ما كان الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتمتع به من الصلاحيات، بوصفه حاكما لا بوصفه نبيا لا يتاح ملء منطقة الفراغ في المذهب الاقتصادي بما تفرضه الأهداف الاسلامية وفقا للظروف، وبالتالي يصبح من المتعذر تطبيق المذهب الاقتصادي كاملا بنحو نقطف ثماره ونحقق أهدافه )). ( 80 )
دراسة السمة الخامسة على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
يؤكد ” فوكوياما ” متفقا مع ” آدم سميث ” على أنّ الاقتصاد متجذر في صلب الحياة الاجتماعية، وهو جزء لا يتجزأ من هذه الحياة, ولا يمكن فهمه بمعزل عن جملة العادات والتقاليد والأعراف والقيم السائدة, أو باختصار أنّ الاقتصاد لا يمكن فصله عن الثقافة في المجتمع. (81 )
وعلى أساس هذا الفهم فإنّ أي تغيير يطرا – لأي سبب من الأسباب – على الحياة الاجتماعية لا بد وأن ينعكس على الحياة الاقتصادية, وهذا ما حدث بالفعل في المجتمع الأمريكي, فقد صاحب التغيّر السلبي لطبيعة الحياة الاجتماعية في هذا المجتمع في العقود الأخيرة تغيرا سلبيا في حياته الاقتصادية.
(( لقد كانت الولايات المتحدة تاريخيا مجتمعا يتميز بارتفاع درجة الثقة والنزوع إلى العمل الجماعي، رغم أن الأميركيين يعدون أنفسهم فردانيين بالفطرة. لكن الولايات المتحدة بدأت تشهد تغيرا جذريا في الجيل أو الجيلين الماضيين، من حيث قدرة الأميركيين التلقائية على الاجتماع والتواصل، أو ما يعرف باسم فن التواصل الاجتماعي. إذ أصبح المجتمع الأميركي في كثير من النواحي فردانيا بالدرجة نفسها التي طالما تصورها الأميركيون : النزعة المتأصلة لليبرالية المرتكزة على الحقوق الفردية نحو توسيع تلك الحقوق ومضاعفتها على حساب سلطة المؤسسات القائمة كلها تقريبا، دفعت لبلوغ حدها الأقصى ونتيجتها المنطقية. إنّ تردي مستويات الثقة وتدهور قيم التواصل الاجتماعي يظهران بوضوح في جملة التغيرات التي طرأت مؤخرا على المجتمع الأميركي، كارتفاع نسبة الجرائم والعنف، وازدياد عدد الدعاوى المدنية في المحاكم، وتفكك بنية الأسرة، وتداعي عدد كبير من البنى الاجتماعية الوسيطة مثل النقابات والكنائس والنوادي والجمعيات الخيرية وعلاقات الجوار في الأحياء السكنية، فضلا عن الشعور العام لدى الأميركيين بغياب القيم المشتركة والصلات الاجتماعية الرابطة بأولئك المحيطين بهم.
وكان لهذا التدهور في الارتباط بالجماعة والتواصل الاجتماعي مضامين مهمة أثرت في الديمقراطية الأميركية … لذلك كله، فإنّ نجاح المؤسسات الديمقراطية والرأسمالية مشروط بقدرتها على التعايش مع عادات وتقاليد ثقافية ترجع إلى ما قبل العصر الحديث وتكفل قيامها بوظيفتها على أكمل وجه. إنّ القانون والعقد التجاري والعقلانية الاقتصادية توفر كلها أسسا ضرورية لكن غير كافية لاستقرار المجتمعات ما بعد الصناعية وازدهارها؛ ولا بد أن تمتزج بقيم التكافل الاجتماعي والالتزام الأخلاقي والثقة المتبادلة والإحساس بالواجب تجاه المجتمع، وهي خصال تنبع من العادات والتقاليد والأعراف لا من الحسابات العقلانية. والحقيقة أنّ هذه العادات والتقاليد الاجتماعية ليست مفارقات تاريخية لا مكان لها في المجتمع الحديث بل هي شروط لازمة وضرورية لنجاحه )). ( 82 )
وعلى ضوء هذه الحقائق المعاصرة يتأكّد ما يذهب إليه ” السيد الصدر ” من أنّ المذهب الاقتصادي في الاسلام لا يمكن أن يؤتي ثماره في مجتمع يعيش حياةً اجتماعية إسلامية منقوصة, لأنّ المذهب الاقتصادي في الإسلام هو جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية الإسلامية, وما لم يستكمل المجتمع الإسلامي أرضيته وصيغته العامة، فعلينا أن لا نترقب من الاقتصاد الإسلامي أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية وأن يضمن للمجتمع اسباب السعادة والرفاه.
السمة السادسة : الاقتصاد الاسلامي يتسع لصور متعددة ومختلفة بوصفه قائما على الاجتهاد الخاص.
(( إنّ العملية التي يمارسها المفكر الاسلامي في دراسته للمذهب الاقتصادي الاسلامي هي عملية اكتشاف. وأنّ الأحكام والمفاهيم الاسلامية هي الذخيرة التي نملكها في عملية الاكتشاف, مما يجعل الصورة التي نكونها عن المذهب الاقتصادي، انعكاسا لاجتهاد معين، لأن تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقف عليها الصورة نتيجة لاجتهاد خاص في فهم النصوص وطريقة تنسيقها والجمع بينها، وما دامت الصورة التي نكونها عن المذهب الاقتصادي اجتهادية. فليس من الحتم أن تكون هي الصورة الواقعية، لأن الخطأ في الاجتهاد ممكن. ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين أن يقدموا صورا مختلفة للمذهب الاقتصادي في الإسلام، تبعا لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كل تلك الصور صورا إسلامية للمذهب الاقتصادي، لأنها تعبر عن ممارسة عملية الاجتهاد التي سمح بها الإسلام وأقرها، ووضع لها مناهجها وقواعدها. وهكذا تكون الصورة إسلامية ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعا، بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام. ( 83 )
دراسة السمة السادسة على وفق معطيات الفكر العالمي المعاصر
ليس في هذه السمة سوى إشارة لطبيعة الدراسة التي يمارسها المفكر الاسلامي من أجل تكوين صورة واضحة عن المذهب الاقتصادي الاسلامي, وبالتالي هي لا تشتمل على أي مضمون يستدعي التشكيك به من قبل الآخرين لنكون بحاجة للتدليل عليه.
المبحث الثالث : دراسة المبادئ الأساسية العامة للاقتصاد الاسلامي بمفهومه المذهبي عند الشهيد الصدر على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
المبادي الضامنة لتحقيق العدالة الاجتماعية
يقول السيد الصدر : (( إنّ الاسلام حين أدرج العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الأساسية، التي يتكون منها مذهبه الاقتصادي لم يتبن العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم يناد بها بشكل مفتوح لكل تفسير، ولا أوكله إلى المجتمعات الإنسانية التي تختلف في نظرتها للعدالة الاجتماعية، باختلاف أفكارها الحضارية ومفاهيمها عن الحياة, وإنما حدد الإسلام هذا المفهوم وبلوره في مخطط اجتماعي معين، واستطاع بعد ذلك ان يجسد هذا التصميم في واقع اجتماعي حي، تنبض جميع شرايينه وأوردته بالمفهوم الإسلامي للعدالة.
فلا يكفي أن نعرف من الإسلام مناداته بالعدالة الاجتماعية ، وإنّما يجب أن نعرف أيضا تصوراته التفصيلية للعدالة، ومدلولها الاسلامي الخاص )). ( 84 )
والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على عدّة مبادئ، لكل منها خطوطه وتفصيلاته :
المبدأ الأول : مبدأ التوازن الاجتماعي كمبدأ ضامن لتحقيق العدالة الاجتماعية
يقول السيد الصدر : (( حين عالج الاسلام قضية التوازن الاجتماعي ليضع منه مبدأً للدولة في سياستها الاقتصادية انطلق من حقيقتين : إحداهما كونية, والأخرى مذهبية. أما الحقيقة الكونية فتشير إلى أن الاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معين. فلا يمكن لنظرة واقعية تجاهلها، ولا لنظام اجتماعي الغاؤه في تشريع، أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعية. وأما الحقيقة الأخرى في المنطق الاسلامي لمعالجة قضية التوازن فهي : القاعدة المذهبية للتوزيع القائلة : بأن العمل هو أساس الملكية وما لها من حقوق.
لنجمع الأن هاتين الحقيقتين، لنعرف كيف انطلق الإسلام منها لمعالجة قضية التوازن ؟
إنّ نتيجة الإيمان بهاتين الحقيقتين هي : السماح بظهور التفاوت بين الأفراد في الثروة، فاذا افترضنا جماعة استوطنوا أرضا وعمروها، وأنشأوا عليها مجتمعا، وأقاموا علاقاتهم على أساس أن العمل هو مصدر الملكية، ولم يمارس احدهم أي لون من ألوان الاستغلال للآخر فسوف نجد أن هؤلاء يختلفون بعد برهة من الزمن في ثرواتهم ، تبعا لاختلافهم في الخصائص الفكرية والروحية والجسدية, وهذا التفاوت يقره الإسلام، لأنه وليد الحقيقتين اللتين يؤمن بهما معا. ولا يرى فيه خطرا على التوازن الاجتماعي ولا تناقضا معه، وعلى هذا الأساس يقرر الاسلام أن التوازن الاجتماعي يجب ان يفهم في حدود الاعتراف بهاتين الحقيقتين.
ويخلص الإسلام من ذلك إلى القول بأن التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل. والتوازن في مستوى المعيشة معناه أن يكون المال موجودا لدى أفراد المجتمع ومتداولا بينهم إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحدا من المعيشة مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنها تفاوت درجة، وليس تناقضا كليا في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.
وهذا لا يعني أن الإسلام يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة. وإنّما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة هدف تسعى الدولة في حدود صلاحياتها إلى تحقيقه والوصول اليه بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها.
وقد قام الإسلام من ناحيته بالعمل لتحقيق هذا الهدف بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الاسراف، وبضغط المستوى من أسفل بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضا من المعيشة الى مستوى أرفع. وبذلك تتقارب المستويات حتى تندمج أخيرا في مستوى واحد، قد يضم درجات ولكنه لا يحتوي على التناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة )). ( 85 )
دراسة المبدأ الأول على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
إنّه لأمر جدير بالاهتمام حينما نلاحظ ذلك الانعطاف – الذي تشير إليه معطيات الفكر العالمي المعاصر على المستوى الاقتصادي – باتجاه التأكيد على واقعية المفاهيم الإسلامية عن مفهوم العدالة الاجتماعية, فقد بدأ المفكرون الغربيون – بحسب تلك المعطيات – يدركون ضرورة مغادرة النفعية التي تنادي بها الرأسمالية والتي أدت إلى تناقضات صارخة داخل المجتمعات الغربية في مستوى معيشة الأفراد, وضرورة الانتقال من المفهوم التجريدي للعدالة إلى تحديد هذا المفهوم وبلورته في مخطط اجتماعي قابل للتطبيق. فالمعطيات تشير إلى أنّ العديد من المفكرين الغربيين بدأ يدرك أنّ العمل لتحقيق العدالة الاجتماعية لا بد وأن يتجاوز التناقضات الصارخة التي خلفتها الرأسمالية في مستوى المعيشة ويتجه نحو – ما نراه يوافق مقولات المذهب الاقتصادي الاسلامي – تحقيق العدالة الاجتماعية من طريق ضغط مستوى المعيشة من أعلى وبضغط المستوى من أسفل بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضا من المعيشة الى مستوى أرفع.
يقول ” وايل كيمليكا ” في كتابه ” نظريات العدالة ” في نقده للنفعية : (( إنّ النفعية أنتجت خلال عشرين عاما مفاهيم جدُّ متناقضة للعدالة الاجتماعية غطت تقريبا كل أطراف الوضعيات السياسية المعروفة من اليسار إلى اليمين. والواقع إننا إن قسنا النفعية جماعيا فإنّنا سوف لن نهتم إلا قليلا بعوز الفقراء وسنهنئ أنفسنا على كل الإجراءات التي تفضّل الأعمال وتنحاز إليها, وبالمقابل : إن كنا متعلقين باحترام حقوق الفرد الإنساني فإنّنا سنحكم بنفعية إجراءات إعادة التوزيع التي تحد من معاناة الفقراء الصارخة )). ( 86 ).
تعود أصول النفعية أساسا إلى ” جيريمي بينتام ” في القرن الثامن عشر الذي سيطر على الفكر السياسي الأنجلوسكسوني. تسلم النفعية بفكرة أنّ مجتمعا ما أفضل من مجتمع آخر إذا وفر كثيرا من المصلحة والخير والمنفعة لمجموع المواطنين ( اكبر قدر من السعادة لأكبر عدد ). ورغم ذلك فإن هذا البرنامج الجذاب ظاهريا قابل للنقد، لأنه لا يهتم في الواقع إلا بمقدار المصلحة والخير والمنفعة دونما اعتبار لكيفية توزعهما على الأفراد. بمعنى آخر إن ما يهم هو فقط حجم قطعة الكعك حتى وإن لم يحصل البعض سوى على جزء صغير جدا منها. ينبغي إذن الاستعداد للتضحية ببعض الأفراد أو المجموعات إذا كان ذلك ضروريا لمصلحة وخير ومنفعة عدد أكبر من الناس. ( 87 )
يعد ” جون راولس ” من كبار الفلاسفة الذين دعوا لتجاوز النفعية, وسعوا إلى بلورة تصور للعدالة الاجتماعية تلقائي بقدر كاف, کي يمكنه أن يكون بديلا للنفعية. لقد أراد ” راولس ” إنتاج نظرية أكثر فائدة من النفعية, لكن تكون أكثر انسجاما مع المشاعر الأخلاقية. إنّه يؤكد أنّ العدالة الإجرائية هي أساس نظريته, ما يعني أنّ النتيجة المحصّل عليها لن تكون عادلة إلا إذا كان الإجراء نفسه عادلا. ( 88 )
من الواضح – بحسب ما تقدم – أن ” راولس ” بتجاوزه للنفعية, وبمحاولته إنتاج تصور للعدالة ينسجم مع المشاعر الأخلاقية, وبتأكيده على الطابع الإجرائي للعدالة يقترب كثيرا من مفاهيم المذهب الاقتصادي الاسلامي عند السيد الصدر.
سوف أعرض هنا باختصار نظرية ” راولس ” في العدالة ثم أبين بعد ذلك كيف تقترب أفكار ” راولس ” من مفاهيم المذهب الاقتصادي الاسلامي عند الشهيد الصدر :
(( يجابَه راولس بقضية أنّ كل شخص منا منجذب منطقيا إلى اختيار مبدأ يعود عليه بالمنفعة بحسب وضعيته الاجتماعية، فالإنسان الغني مثلا يعتقد أن الضرائب غير عادلة وهي التي تهدف إلى اتخاذ إجراءات اجتماعية. بينما يعتقد شخص فقير العكس، ومن ثمة أي إجراء ينبغي اختباره لتلافي انحراف كهذا ؟ يتصور راولس وضعية افتراضية ( تجربة فكرية ) تقدم الظروف الضرورية لإجراء عادل. تتطابق هذه الوضعية مع ” ستار الجهل ” المصطلح الأكثر أصالة في فكر راولس، فمع هذا الستار لا أحد يعرف وضعيته الخاصة به في المجتمع ولا مؤهلاته الطبيعية، وهو السبب في أنه ليست لأحد إمكانية بلورة مبادئ لفائدته الشخصية. سيكون الناس في هذه الوضعية الافتراضية مكتفين بتحديد قواعد المجتمع الذي ينبغي إنشاؤه دون معرفة مسبقة للوضعية الاجتماعية التي سيكونون عليها ولا قدراتهم الشخصية ( مثل الذكاء أو القوة )، يجهل كل واحد حتى الخطوط المميزة لشخصيته وتصوره الخاص للخير أو مشروعه الشخصي في الحياة أيضا.
ستار الجهل حسب ” راولس ” يجعل أختيارا موحدا لتصور متميز للعدالة أمرا ممكنا. فبما أن شركاء عقلانيين يجهلون ما يجعلهم مختلفين بعضهم عن بعض سيقتنعون كلهم بالحجج نفسها. إذا وجد أحدهم بعد تفكير ناضج أن تصورا ما للعدالة أفضل من تصور آخر، فإن الجميع يفضلونه وسيتوصلون إلى اتفاق جماعي. وهكذا فإن المؤلف بنظريته يعمم نظرية العقد الاجتماعي المعروفة جيدا ويرفعها إلى أعلى مستويات التجريد. ( 89 )
ويعتقد ” راولس ” أنّ الأشخاص الذين يعيشون تلك الوضعية الافتراضية سوف يتوصلون حتما إلى المبدأين الأساسيين الآتيين :
المبدأ الأساسي الأول هو ” مبدأ حرية مساوية ” : وهذا المبدأ الذي يتمتع بالأسبقية على المبادئ الأخرى يرمي إلى ضمان حريات وحقوق متساوية للجميع. إنه يفترض أنه ” ينبغي أن يكون لكل شخص حق مساو للنظام الكلي الأكثر انتشارا للحريات الأساسية المتساوية للجميع، متوافق مع النظام نفسه للجميع “. الحريات الأساسية الأكثر أهمية هي الحريات السياسية ( الحق في التصويت واحتلال منصب مسؤولية عمومية, وحرية التعبير والاجتماع, وحرية التفكير والوعي، واحترام السلامة الجسدية والبسيكولوجية للشخص, والحق في الملكية الشخصية والحماية من التوقيف والحبس التعسفيين ).
أما المبدأ الأساسي الثاني فينقسم إلى “مبدا تساوي الفرص” و ” مبدا الاختلاف “.
أما فيما يتعلق بـ ” مبدأ تساوي الفرص ” فإنه يشير – بحسب راولس – إلى أنّ كل شخص ينبغي أن يستفيد من الفرص نفسها في الوصول إلى مختلف الوظائف والوضعيات الاجتماعية التي يستفيد منها جاره. ولهذا المبدأ الأسبقية على مبدا الاختلاف؛ ذلك أنه ليس لنا أن نضيق مجال تساوي الفرص لصالح تحسينٍ لظروف معيشة كل فرد.
وأما ” مبدأ الاختلاف ” فإنه يهدف إلى تأسيس العدالة الاجتماعية لكنه يراعي حقيقة أنه في مجتمع ذي مساواة مطلقة تتعرض الإنتاجية لخطر الانخفاض كثيرا إلى حد يتضرر معه الجميع حتى الأكثر حرمانا. يؤكد ” راولس” إذن أنّ التفاوتات الاجتماعية الاقتصادية عادلة فقط و فقط إذا كانت منتجة لمزايا تعويضية للأفراد الأكثر حرمانا.
يعتقد ” راولس ” إذن أنه لا يوجد تفاوت لاعدالة في حقيقة أنّ عددا قليلا يحصل على امتيازات أعلى من المتوسط في وقت تتحسن فيه وضعية المحرومين بهذا الصنيع. ( 90 )
ثمة اختلافات أقل وتقاربات أكثر بين أفكار ” راولس ” ومفاهيم المذهب الاقتصادي الإسلامي عند ” السيد الصدر “.
الاختلاف الأساسي بين ” راولس ” و ” السيد الصدر ” يكمن بطبيعة الحال في المصدر الذي يستلهم منه كل منهما الإجراءات الكفيلة بتحقيق العدالة, فينما يستلهم ” السيد الصدر ” تلك الإجراءات – بحكم توجهه الديني – من تعاليم الدين الاسلامي, يستلهم ” راولس ” تلك الإجراءات – بحكم كونه فيلسوفا – من وحي التفكير الفلسفي.
بالطبع أنّ هناك اختلافات أخرى سوف نعرض إليها بالتفصيل حينما نصل إلى عرض الانتقادات التي وجهت لنظرية ” راولس “.
أما فيما يتعلق بالتقاربات فـ :
1 – هناك تقارب واضح بين ” روالس ” والمذهب الاقتصادي الاسلامي عند الشهيد الصدر حول مضمون المبدأ الأساسي الأول ( مبدأ حرية مساوية ) فكما أن ” راولس ” يدعو إلى ضمان حريات وحقوق متساوية للجميع, كذلك يدعو الاسلام إلى ذلك. فهو يقر أنّ لكل فرد من أفراد المجتمع – دون تمييز – الحق في التصويت واحتلال منصب مسؤولية عمومية, وحرية التعبير والاجتماع, وحرية التفكير والوعي، واحترام السلامة الجسدية والبسيكولوجية للشخص, والحق في الملكية الشخصية والحماية من التوقيف والحبس التعسفيين.
وإذا قيل : ولكن الاسلام يحد من حرية الفرد – كما سيتضح في ” مبدأ الحرية المحدودة ” – بالتحديد الذاتي النابع من الإيمان والشعور الخلقي وبالتحديد الموضوعي المتمثل بتدخل الدولة.
أقول : وإن كان هذا الاعتراض لا يمت بصلة لمضمون المبدأ الأساسي الأول, فهذا المبدأ يدعو إلى ضمان حريات وحقوق متساوية للجميع بغض النظر عما إذا كانت تلك الحريات محدودة أو غير محدودة, فهو يعنى بالدرجة الأساس بضمان تساوي الأفراد بتلك الحريات لا بطبيعتها. ومع ذلك فإنّ مبادئ ” راولس ” لو تأملنا فيها جيدا هي أيضا تدعو من جهة إلى تحديد حرية الفرد بالتحديد الذاتي النابع من الشعور الأخلاقي, فمن المعروف عنه أنّه (( أراد إنتاج نظرية أكثر فائدة من النفعية, لكن تكون أكثر انسجاما مع المشاعر الأخلاقية. ( 91 ) و” راولس ” يعلم جيدا أنّ أي مجتمع إذا ما أراد تبني أفكاره عن العدالة فإنه لن يصوت على القبول بها ما لم يكن يتمتع بشعور أخلاقي يجعله يتعاطف مع الأفراد الأكثر حرمانا, ثم أنّه لا ضمانة تجعل الحكومة تراعي الأفراد الأكثر حرمانا في مجتمعاتها ما لم تتمتع تلك الحكومة بالشعور الأخلاقي. ومن جهة أخرى فإنّ مبادئ ” راولس ” تدعو إلى تحديد حرية الفرد بالتحديد الموضوعي المتمثل بتدخل الحكومة, فالحكومة التي تريد تطبيق أفكار ” راولس ” في مجتمعاتها عليها أن تقف في وجه أي رغبات تسعى لإصدار قرارات لا تنسجم مع تخفيف الضرر على الأفراد الأكثر حرمانا في المجتمع.
2 – هناك تقارب واضح بين ” روالس ” والمذهب الاقتصادي الاسلامي عند الشهيد الصدر حول مضمون ” مبدأ تساوي الفرص ” فكما أنّ ” راولس ” قد دعا إلى أنّ كل شخص ينبغي أن يستفيد من الفرص نفسها في الوصول إلى مختلف الوظائف والوضعيات الاجتماعية التي يستفيد منها جاره. كذلك فعل الاسلام من قبل حيث فرض على الدولة أن تهيئ لجميع الأفراد وسائل العمل, وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر, ليعيش على أساس عمله وجهده. ( 92 )
وكما أنّ ” راولس ” أكّد أنّ لهذا المبدأ الأسبقية على مبدا الاختلاف؛ كذلك فعل الاسلام من قبل فقد أكّد على اسبقية هذا المبدأ رغم أنه يؤدي إلى التفاوت بين الأفراد.
3 – هناك تقارب واضح بين ” روالس ” والمذهب الاقتصادي الاسلامي عند الشهيد الصدر حول مفهوم التفاوت, فكما أنّ ” راولس ” أقرّ به على أساس أنه في مجتمع ذي مساواة مطلقة تتعرض الإنتاجية لخطر الانخفاض كثيرا إلى حد يتضرر معه الجميع حتى الأكثر حرمانا, فإنّ الاسلام كان قد أقر بذلك المفهوم على أساس أنه حقيقة كونية تشير إلى أن الاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معين.
4 – هناك تقارب واضح بين ” روالس ” والمذهب الاقتصادي الاسلامي عند الشهيد الصدر حول ” مبدأ الاختلاف ” فكلا الطرفين قد أخذ بنظر الاعتبار تحسن المستوى المعيشي للأفراد الأكثر حرمانا. فالإسلام ما انفك يدعو إلى ضغط مستوى المعيشة من أسفل بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضا من المعيشة الى مستوى أرفع.
بالطبع : هناك عدّة انتقادات وجهت لنظرية ” راولس ” في العدالة, ولو أنّنا تأملنا جيدا في بعض تلك الانتقادات لرأينا أنّها ذهبت باتجاه المسائل التي لا تعكس تقاربا بين ” راولس ” والمذهب الاقتصادي الإسلامي, مما يؤكد على أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر تسير باتجاه تأكيد مبادئ العدالة بمفهومها الاسلامي.
الانتقاد الأول : هو انتقاد وجهه ” ريمون بودون ” ( أستاذ علم الاجتماع بجامعة السوربون ) يعتقد فيه أن المبادئ المتبناة من ” راولس ” غير متوافقة مع أحكام المعنى العام. فبحسب ” راولس ” يكون المجتمع الذي توجد فيه فوارق قليلة بين الأكثر غنى والأكثر فقرا أكثر لا عدالة من المجتمع الذي توجد فيه فوارق كبيرة بينهما، لكن تكون للفقراء هنا امتيازات أكثر مما هي عليه في المجتمع السابق.
يشير ” ريمون بودون ” إلى دراسة أجريت في الولايات المتحدة وفي بولونيا طلب فيها من أفراد النظر في توزيع خيالي للدخل واختيار التوزيع الذي يبدو لهم عادلا من ضمن أربع إمكانيات. مبدأ الاختلاف عند ” راولس ” كان الصيغة الأقل اختيارا، إذ لم يخترها سوى الأفراد. وبالمقابل اختار ( 77.8 % ) منهم صيغة تسمح بأعلى دخل متوسط ممكن، لكن في حدود يضمن فيها حد اجتماعي أدنى للأشخاص ذوي الدخل الأضعف. يستند هذا الاختيار حسب ” ر. بودون ” إلى أسباب وجيهة فالحس المشترك مع اعتباره التفاوتات مقبولة يرى الإقصاء أمرا يصعب تحمله. والحكومة الجيدة حسبه هي التي تعلي إلى أقصى حد متوسط الدخل مع وضع أرضية إلزامية بقصد تجنب الإقصاء الاجتماعي. يعتقد هذا الكاتب إذن أنّ نظرية ” راولس ” تنتهي بفشل علمي ذلك أنّها لا تتوصل إلى توضيح الأحاسيس بالعدالة كما يمكن ملاحظتها بالضبط. ( 93 )
إنّ النقد الذي وجهه ” ريمون بودون ” يشير إلى أنّ نظرية ” راولس ” لم تضمن حد اجتماعي أدنى للأشخاص ذوي الدخل الأضعف. ولم تحمل الحكومة على وضع أرضية إلزامية تعمل على تجنب الإقصاء الاجتماعي. ولذلك تنتهي نظرية ” راولس ” بحسب ” بودون ” بفشل علمي.
إنّ هذا الخلل الذي تعانيه نظرية ” راولس ” كان قد تنبه له المذهب الاقتصادي الاسلامي وعالجه, فالإسلام لم يكتف كما هو الحال عند ” راولس ” بالتعاطف الأخلاقي مع الأفراد الأكثر حرمانا في المجتمع من طريق وضع سياسات تتجنب قدر الإمكان الضرر الذي قد يلحق بهؤلاء الأفراد, بل أنّه – من جهة – فرض على المسلمين بشكل عام أن يحددوا نوع الحاجات التي يجب أن يُضمن إشباعها لكل فرد, وتعيين الحد الأدنى من المعيشة التي ينبغي أن يوفرها المجتمع لكل فرد. ( 94 ) ومن جهة أخرى حمّل الدولة مسؤولية مباشرة للضمان, و(( هذه المسؤولية لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب, بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه أفراد المجتمع الإسلامي، لأن ضمان الدولة هنا ضمان إعالة. وإعالة الفرد هي القيام بمعيشته وإمداده بكفايته. والكفاية من المفاهيم المرنة التي يتسع مضمونها كلما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يسرا ورخاء. وعلى هذا الأساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية للفرد، من غذاء ومسكن ولباس، وان يكون إشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية والكمية في مستوى الكفاية بالنسبة الى ظروف المجتمع الإسلامي. كما يجب على الدولة إشباع غير الحاجات الأساسية من سائر الحاجات التي تدخل في مفهوم المجتمع الإسلامي عن الكفاية تبعا لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه )). ( 95 ) والمسؤولية المباشرة للدولة في الضمان لا ترتكز هنا – بحسب الاسلام – على مجرد التعاطف الأخلاقي مع الأفراد الأكثر حرمانا, بل أنّها ترتكز على أساس الحق العام للجماعة من الاستفادة من ثروات الطبيعة, وثبوت هذا الحق للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة. ( 96 )
الانتقاد الثاني : ذهب ” أمارتيا سن ” الفيلسوف وعالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لسنة 1998، (( إلى أن نظرية راولس في العدالة، لا تأخذ في الاعتبار إلا المساواة، من حيث الظروف والملابسات العامة، وتعتمد مبدأ القسمة العادلة بين جميع من يكونون في الأوضاع ذاتها من جهة التمكين من الخيرات الاجتماعية الأولية، ويعتبر ” سن ” أن ذلك فيه إجحاف بحق أصحاب الاحتياجات الخاصة. فلا يجب، في رأيه، أن نتحدث عن المساواة من حيث توزيع الخيرات الأولية وفق المواقع التي يحتلها الناس في السلم الاجتماعي، وإنما من جهة المقدرات على الفعل التي يوفرها لهم ذلك التوزيع. فأن يكون 1000 دولار، مثلا، هو الدخل الذي يمثل التوزيع العادل للموارد بالنسبة إلى كل الأشخاص الذين ينتمون إلى الدرجة والموقع الاجتماعي ذاتيهما، لا يعني أن ذلك يمنحهم جميعهم مقدرات متكافئة، فمن يعاني عاهة ما أو مرضا مزمنا يفرض عليه مصاريف علاج من نوع خاص، لن يكون متمتعا بالمقدرات عينها التي يتيحها المبلغ نفسه لإنسان في وضع صحي سليم. لهذا لا تضمن نظرية ” العدالة إنصافا ” مقتضى الإنصاف والمساواة في نظر ” سن ” ( 97 ).
إنّ هذا الخلل الذي تعانيه نظرية ” راولس ” كان قد تنبه له المذهب الاقتصادي الاسلامي وعالجه, فالإسلام – كما كتب السيد الصدر تحت عنوان ” دور الحاجة في التوزيع ” : (( يقسم أفراد المجتمع إلى ثلاث فئات : فئة قادرة – بما تتمتع به من مواهب وطاقات فكرية وعملية – على توفير معيشتها في مستوى مرفه غني، وفئة أخرى تستطيع ان تعمل، ولكنها لا تنتج في عملها إلا ما يشبع ضروراتها ويوفر لها حاجاتها الأساسية، وفئة ثالثة لا يمكنها أن تعمل لضعف بدني او عاهة عقلية وما إلى ذلك من الأسباب التي تشل نشاط الإنسان، وتقذف به خارج نطاق العمل والإنتاج.
فعلى أساس الاقتصاد الإسلامي تعتمد الفئة الأولى في كسب نصيبها من التوزيع على العمل، بوصفه أساسا للملكية وأداة رئيسية للتوزيع، فيحصل كل فرد من هذه الفئة على حظه من التوزيع وفقا لإمكاناته الخاصة، وإن زاد ذلك على حاجاته ما دام يستخدم إمكاناته في الحدود التي يضعها الاقتصاد الإسلامي للنشاطات الاقتصادية للأفراد. فالحاجة إذن لا تعمل شيئا بالنسبة إلى هذه الفئة، وإنّما العمل هو أساس نصيبها من التوزيع. وبينما تعتمد الفئة الأولى على العمل وحده، يرتكز دخل الفئة الثالثة وكيانها الاقتصادي في الإسلام على أساس الحاجة وحدها، لأن هذه الفئة عاجزة عن العمل، فهي تحصل على نصيب من التوزيع يضمن حياتها كاملة على أساس حاجتها وفقا لمبادئ الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي. وأما الفئة الثانية التي تعمل ولا تجني من عملها إلا الحد الأدنى من المعيشة، فهي تعتمد في دخلها على العمل والحاجة معاً. فالعمل يكفل لها معيشتها الضرورية، والحاجة تدعو – وفقا لمبادئ الكفالة والتضامن – الى زيادة دخل هذه الفئة بأساليب وطرق محددة في الاقتصاد الإسلامي، ليتاح لأفراد هذه الفئة العيش بالدرجة العامة من الرفاه )). ( 98 )
الانتقاد الثالث : صاغ ” دووركين ” نقدا لنظرية العدالة عند ” راولس ” (( أكّد فيه أن العدالة تقتضي التعويض عن أشكال اللامساواة بين الفرد وغيره، والتي تسببها عوامل اعتباطية خارجة عن إرادته لا يتحمل مسؤوليتها. فلئن اعتبر ” راولس ” أن الظروف والملابسات تكون اعتباطية من وجهة نظر أخلاقية، للأسباب التي سبق ذكرها، رأى ” دوورکين ” أن الوجه الاعتباطي لا يكمن فقط في الملابسات والظروف التي يجد الأفراد أنفسهم فيها، وإنما قد يتأتى جانب مهم منه من طبيعة الاختيارات غير الحكيمة التي يقوم بها الأفراد أنفسهم. فحتى لو وقع تصحيح الجانب المتعلق بالظروف والملابسات، ولم تعد مصادفات المولد والمنشأ، ولا تفاوت المؤهلات والقدرات الطبيعية تؤثر في مصائر الناس؛ لن تكون مع ذلك نظرية ما في العدالة منصفة حقا إلا إذا عكست اختيارات الأفراد ونتائجها، لا الظروف والأحوال التي وجدوا أنفسهم فيها.
لذلك لا بد من أن تمنح لهم، في رأي ” دوورکین “، موارد متساوية من البداية، حتى يختاروا بأنفسهم سبل كسب رزقهم، والحياة التي يريدون عيشها، وحتى يتحملوا مسؤولية اختياراتهم. وقد ذهب ” دوورکين ” إلى إعطاء الأولوية، عند توزيع الموارد، لمبدأ المساواة في التقدير والاحترام، بل جعله هو أساس كل الحقوق في المجتمعات الليبرالية، بخلاف ” راولس ” الذي منح هذه الأولوية لمبدأ الحرية. ومن وجهة نظره، تبدو نظرية ” راولس ” غیر منصفة، لأنّها تقيد كل الفوارق بشرط أن يستفيد الجميع منها، حتى أولئك الذين قاموا باختيارات غير موفقة، كأن يكونوا بددوا أموالهم في اللهو أو قامروا بتوظيفها في مشاريع لم تكن مربحة. كما أن نظرية العدالة عند ” راولس ” لا تضع آلية لتعويض الإعاقات التي يمني بها بعض الناس مثل الإعاقات الطبيعية أو تلك الناجمة عن حوادث طارئة مثل الشغل أو السير. لذلك يدافع ” دووركين ” عن ضرورة المساواة في الموارد بين الجميع عند الانطلاق وقبل الدخول في عمليات التبادل والتفاعل، من خلال آليات السوق ليتحمل الناس فيما بعد نتائج اختباراتهم. ( 99 )
يشتمل هذا النقد على مجموعة من المؤاخذات كان قد تنبه لها المذهب الاقتصادي الاسلامي من قبل وعالجها.
أما فيما يخص المؤاخذة الأولى, والتي يوضح فيها ” دووركين ” أن نظرية ” راولس ” قد أخفقت في المناداة بمنح الأفراد موارد متساوية من البداية، حتى يختاروا بأنفسهم سبل كسب رزقهم، والحياة التي يريدون عيشها، وحتى يتحملوا مسؤولية اختياراتهم. وعلى أساس تلك المؤاخذة ذهب ” دوورکين ” إلى إعطاء الأولوية، عند توزيع الموارد، لمبدأ المساواة في التقدير والاحترام، بل جعله هو أساس كل الحقوق في المجتمعات الليبرالية، بخلاف ” راولس ” الذي منح هذه الأولوية لمبدأ الحرية.
نقول : إنّ الاسلام قد تنبه لذلك الأمر وعالجه بشكل دقيق؛ فالإسلام لا يقدم الحرية على حساب تحقيق المساوة بين الجميع في العيش الكريم, كما نلاحظ ذلك بوضوح في مفهومه عن ” التوزيع ما قبل الانتاج ” فهو لا يتفق في مفهومه هذا مع الرأسمالية لأنّه لا يؤمن بمفاهيمها عن الحرية الاقتصادية. ( 100 ) (( وهو لذلك يحد من حرية تملك الأفراد لمصادر الإنتاج ويفصل توزيع تلك المصادر عن شكل الإنتاج، لأن المسألة في نظر الإسلام ليست مسألة أداة انتاج تتطلب نظاما للتوزيع يلائم سيرها ونموها، لكي يتغير التوزيع كلما استجدت حاجة الإنتاج إلى تغيير وتوقف نموه على توزيع جديد، وإنما هي مسالة انسان له حاجات وميول يجب إشباعها في إطار محافظ على انسانيته وينميها، والانسان هو الإنسان، بحاجاته العامة وميوله الأصيلة، سواء كان يحرث الأرض بيديه، أو يستخدم قوى البخار والكهرباء، ولهذا يجب أن يتم توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج بشكل يكفل إشباع تلك الحاجات والميول، ضمن إطار إنساني يتيح للإنسان أن ينمي وجوده وإنسانيته داخل الإطار العام.
فكل فرد – بوصفه إنسانا خاصاً – له حاجات لا بد من إشباعها، وقد أتاح الإسلام للأفراد إشباعها عن طريق الملكية الخاصة، التي أقرها ووضع لها اسبابها وشروطها, وحين تقوم العلاقات بين الأفراد، ويوجد المجتمع، يكون لهذا المجتمع حاجاته العامة أيضا، التي تشمل كل فرد بوصفه جزءا من المركب الاجتماعي، وقد ضمن الإسلام للمجتمع إشباع هذه الحاجات عن طريق الملكية العامة لبعض مصادر الانتاج.
وكثيرا ما لا يتمكن بعض الأفراد من إشباع حاجاتهم عن طريق الملكية الخاصة فيمنى هؤلاء بالحرمان، ويختل التوازن العام، وهنا يضع الإسلام الشكل الثالث للملكية، ملكية الدولة، ليقوم ولي الأمر بحفظ التوازن العام. وهكذا يتم توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج بتقسيم هذه المصادر الى حقول الملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة )). ( 101 )
إنّ الاسلام – كما يبيّن السيد الصدر – (( يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل، لأنه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة، ولا يتهرب من الجانب الأعمق للتوزيع، أي توزيع مصادر الإنتاج، كما صنعت الرأسمالية المذهبية، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائما تحت شعار الحرية الاقتصادية التي تخدم الأقوى وتمهد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها بل إن الإسلام تدخل تدخلا إيجابيا في توزيع الطبيعة، وما تضمه من مصادر إنتاج، وقسمها إلى عدة أقسام، لكل قسم طابعه المميز من الملكية الخاصة، أو الملكية العامة، وملكية الدولة، أو الإباحة العامة … ووضع لهذا التقسيم قواعده، كما وضع الى صف ذلك أيضا القواعد التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتجة، وصمم التفصيلات في نطاق تلك القواعد )). ( 102 )
ويرتكز ” توزيع ما قبل الانتاج ” الذي يقدم المساوة في العيش الكريم على الحرية الاقتصادية بمفهومها الرأسمالي على ” مبدأ حق الجماعة في الموارد الطبيعية ” لأنّ هذه الموارد قد خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون فئة ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ]، وهذا الحق يعني أنّ كل فرد من الجماعة له الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادرا على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيء له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزا عنه فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم. فالمسؤولية المباشرة للدولة في الضمان ترتكز على أساس الحق العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة، وثبوت هذا الحق للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة “. ( 103 )
أما مؤاخذة ” دووركين ” الثانية التي يرى فيها أنّ نظرية ” راولس ” تبدو غیر منصفة، لأنّها تقيد كل الفوارق بشرط أن يستفيد الجميع منها، حتى أولئك الذين قاموا باختيارات غير موفقة، كأن يكونوا بددوا أموالهم في اللهو أو قامروا بتوظيفها في مشاريع لم تكن مربحة. فإنّ المذهب الاقتصادي الاسلامي لا يكتفي بإقرار هذه المؤاخذة وإنما يملك تصورا عن كيفية تجاوزها. فالإسلام : (( لا يعترف بالمخاطرة بوصفها عاملا من عوامل الكسب، وليس في ألوان الكسب التي سمحت بها النظرية ما يستمد مبرره النظري من عنصر المخاطرة.
فان المخاطرة في الحقيقة ليست سلعة يقدمها المخاطر الى غيره ليطالب بثمنها، ولا عملا ينفقه المخاطر على مادة ليكون من حقه تملكها او المطالبة بأجر على ذلك من مالكها، وإنما هي حالة شعورية خاصة تغمر الانسان وهو يحاول الاقدام على أمر يخاف عواقبه، فإما أن يتراجع انسياقا مع خوفه، واما ان يتغلب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه، فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق، واختار بملء ارادته تحمل مشاكل الخوف بالإقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلا، فليس من حقه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادي عن هذا الخوف ما دام شعورا ذاتيا وليس عملا مجسدا في مادة ولا سلعة منتجة. صحيح أن التغلب على الخوف في بعض الاحيان قد يكون ذا أهمية كبيرة من الناحية النفسية والخلقية، ولكن التقييم الخلقي شيء، والتقييم الاقتصادي شيء آخر )). ( 104 )
أما المؤاخذة الثالثة التي يرى فيها ” دووركين ” أنّ نظرية العدالة عند “راولس ” لا تضع آلية لتعويض الإعاقات التي يمني بها بعض الناس مثل الإعاقات الطبيعية أو تلك الناجمة عن حوادث طارئة مثل الشغل أو السير. فقد تبين وبشكل واضح مما تقدم من دراسة للانتقادات الموجهة لنظرية ” راولس ” أنّ المذهب الاقتصادي الاسلامي لم يكتف بالتنبه إلى مثل هذه الإخفاقات وإنما عالجها بشكل مفصل.
الانتقاد الرابع : سجل الفيلسوف ” بول ريكور ” الطابع الدائري لمحاججة راولس فمبادئ العدالة محددة في كتابه ومبلورة قبل النظر في ظروف الاختيار، أي قبل ستار الجهل. بالنسبة لـ ” ريكور ” يقدم بيان ” راولس ” في أحسن الحالات عقلنة لمعني مفترض مسبقا للعدالة الاجتماعية. ( 105 )
بالتأكيد أنّ السيد الصدر يتفق مع ” ريكور ” في أنّ بيان ” راولس ” عقلنة لمعنى مفترض مسبقا للعدالة الاجتماعية, ولكنه سيحكم عليها بأنّها عقلنة محكومة برؤية شخصية لا تستند إلى الواقع بقدر ما تستند إلى الخيال. وعلى العكس من ذلك ما فعله المذهب الاقتصادي الاسلامي فإنّ عقلنته لمبادئ العدالة تستند إلى الواقع كما تبيّن لنا ذلك عند الحديث عن السمة الواقعية التي يتمتع بها الاقتصاد الاسلامي.
وخلاصة القول في هذا المبدأ : إن معطيات الفكر العالمي المعاصر أخذت منذ فترة من الزمن منحى تصاعديا يتضح من خلاله إخفاق الرأسمالية ومحاولة تجاوزها – كما رأينا ذلك مع ” جون راولس ” ومنتقديه – والتوصل إلى أفكار صائبة كان قد توصل إليها مسبقا المذهب الاقتصادي الاسلامي.
المبدأ الثاني : مبدأ التكافل العام كمبدأ ضامن لتحقيق العدالة الاجتماعية
يقول السيد الصدر : (( إنّ الضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل العام بين المسلمين يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعا، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الاسلام على أنفسهم. فهي بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإسلام، والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولة عن امانتها، ومخولة حق إكراه كل فرد على أداء واجباته الشرعية، وامتثال التكاليف التي كلفه الله بها. فكما يكون لها حق إكراه المسلمين على الخروج للجهاد لدى وجوبه عليهم، كذلك لها حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين إذا امتنعوا عن القيام بها. وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها من هذا الضمان بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا أمر الله تعالى.
وقد ربط الاسلام بين هذه الكفالة ومبدأ الأخوة العامة بين المسلمين ليدلل على أنّها ليست ضريبة التفوق في الدخل فحسب، وإنّما هي التعبير العملي عن الأخوة العامة، سيراً منه على طريقته في إعطاء الأحكام إطارا خلقيا يتفق مع مفاهيمه وقيمه، فحق الانسان في كفالة الأخر له مستمد في مفهوم الاسلام من اخوته له، واندراجه معه في الأسرة البشرية الصالحة. والدولة تمارس في حدود صلاحياتها حماية هذا الحق وضمانه، والحاجات التي يضمن هذا الحق إشباعها هي الحاجات الشديدة, وشدّة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية, وتعسر الحياة بدون إشباعها )).( 106 )
دراسة المبدأ الثامن على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
ليس في معطيات الفكر العالمي المعاصر ما هو أوضح من إقرار الجميع بأهمية التكافل العام في المجتمع ودوره في حماية الأفراد الأقل حرمانا من الانزلاق إلى مستوى معيشي يعجزون فيه عن توفير حاجاتهم الأساسية.
إنّ الاعتراض الوحيد الذي يمكن أن يوجه إلى مبدأ التكافل العام في ضوء المذهب الاقتصادي الاسلامي هو عملية الإلزام التي تمارسها الدولة في تطبيق هذا المبدأ, وعدم الاكتفاء بتطبيقه طوعا. ولكن هذا الاعتراض إذا ما علمنا أنّ معظم المجتمعات – بما فيها المجتمعات المتقدمة والرأسمالية المعاصرة – تلزم رعاياها بتسديد العديد من الضرائب كضريبة الدخل وغيرها, بل أن بعض المجتمعات المتقدمة تستوفي من رعاياها ضرائب تفوق بكثير ما يفرضه الاسلام في ضوء هذا المبدأ. وإذا كان هناك فرق بين هذه الأنظمة والنظام الاسلامي في عملية الالزام فإنّه يكمن فيما يمتاز به الاسلام من ربط التكافل العام بمبدأ الأخوة العامة بين المسلمين.
المبدأ الثالث : مبدأ حق الجماعة في موارد الدولة العامة كمبدأ ضامن لتحقيق العدالة الاجتماعية.
يقول السيد الصدر : (( إنّ الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون فئة ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ سورة البقرة : 29 ] وهذا الحق يعني ان كل فرد من الجماعة له الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادرا على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيء له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزا عنه فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم. فالمسؤولية المباشرة للدولة في الضمان ترتكز على أساس الحق العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة، وثبوت هذا الحق للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة.
وأما الطريقة التي اتخذها المذهب لتمكين الدولة من ضمان هذا الحق وحمايته للجماعة كلها بما تضم من العاجزين فهي إيجاد بعض القطاعات العامة في الاقتصاد الإسلامي، التي تتكون من موارد الملكية العامة، وملكية الدولة، لكي تكون هذه القطاعات الى صف فريضة الزكاة ضمانا لحق الضعفاء من أفراد الجماعة، وحائلا دون احتكار الأقوياء للثروة كلها ورصيدا للدولة يمدها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي، ومنح كل فرد حقه في العيش الكريم من ثروات الطبيعة.
فالأساس على هذا الضوء هو حق الجماعة كلها في الانتفاع بثروات الطبيعة. والفكرة التي ترتكز على هذا الأساس هي المسؤولية المباشرة للدولة في ضمان مستوى الكفاية من العيش الكريم لجميع الأفراد العاجزين والمعوزين, والطريقة المذهبية التي وضعت لتنفيذ هذه الفكرة هي القطاع العام الذي أنشأه الاقتصاد الإسلامي ضمانا لتحقيق هذه الفكرة في جملة ما يحقق من أهداف )). ( 107 )
دراسة المبدأ الثالث على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
إنّ المشكلة الأساسية التي تعاني منها الرأسمالية النفعية تكمن في أنّها لا تضمن توزيعا عادلا للثروات على جميع أفراد المجتمع, فالرأسمالية النفعية تدعي أن المصالح العامة تكفلها الحرية الممنوحة لجميع أفراد المجتمع, و (( ترتكز هذه الفكرة على أساس الايمان بأن الدوافع الذاتية تلتقي دائما بالمصالح العامة والرفاه الاجتماعي، فإذا توفرت الحرية في المجال العملي لجميع الأفراد، فإن الإنسان في المجتمع الحر يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة والتي تؤدي في النهاية إلى توفير المصالح العامة. وعلى هذا الأساس خيل للاقتصاديين الرأسماليين في بادئ الأمر أن ضمان سعادة المجتمع ومصالحه ليس بحاجة إلى القيم الخلقية والروحية وتغذية الناس بها، لأن كل إنسان – وحتى من لا يعرف شيئا من تلك القيم – يسير طبقا لمصلحته الخاصة إذا كفلت له الحرية في المجال العملي. وهذه المصلحة نفسها تواكب مصلحة المجتمع وتتفق معها في نتائجها وإن كان الفرد مدفوعا نحوها بدافع خاص )). ( 108 )
هكذا يتضح أنّ الرأسمالية النفعية لم تنكر ضرورة تحقيق المصالح العامة بما يضمن حق جميع الأفراد في ثروات المجتمع, ولكنها أضلت الطريق حينما ظنت أنّ ذلك لن يكون عن طريق توزيع ثروات المجتمع بين الأفراد على حساب التفاوت فيما بينهم مما يؤدي إلى عدم تحقيق العدالة ( فليس من العدل, مثلا, أن يكون نصيب الأغبياء والمتكاسلين الذين ليس لهم أي دور إيجابي في تنمية ثروات المجتمع كنصيب الأذكياء الذين يساعدون في تنمية هذه الثروات ) وإنّما يكون عن طريق أن نكفل الحرية لجميع أفراد المجتمع بحيث يكون لدى الجميع فرص متساوية في الاستفادة من ثروات مجتمعهم, بما فيها الموارد العامة.
ولكن التطبيق العملي لمبادئ الرأسمالية النفعية أوضح أنّ (( حديث التوافق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية في ظل الحرية الرأسمالية أدعى إلى السخرية منه إلى القبول بعد أن ضج تاريخ الرأسمالية بفجائع وكوارث يقل نظيرها في التاريخ وتناقضات صارخة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة وفراغ هائل أحدثه الاستغناء عن الكيان الخلقي والروحي للمجتمع، فامتلا بدلا عن القيم الخلقية والروحية بألوان من الظلم والاستهتار والطمع والجشع.
ونستطيع بكل سهولة أن نتبين من خلال التاريخ التطبيقي للرأسمالية جنايات هذه الحرية الرأسمالية التي رفضت كل التحديات الخلقية والروحية وآثارها الخطيرة في مجرى الحياة الاقتصادية أولا، وفي المحتوى الروحي للمجتمع ثانيا، وفي علاقات المجتمع الرأسمالي بغيره من المجتمعات ثالثا, حتى عاد الرأسماليون أنفسهم يؤمنون بحاجة الرأسمالية إلى التعديل والتحديد، ويحاولون شيئا من الترقيع والترميم، للتخلص من تلك الأثار او إخفائها عن الأبصار، وأصبحت الرأسمالية في صيغتها المذهبية الكاملة مذهبا تاريخيا أكثر من كونه مذهبا يعيش في واقع الحياة.
أما في مجرى الحياة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي فليست الحرية الرأسمالية المطلقة الا سلاحا جاهزا بيد الأقوياء يشق لهم الطريق، ويعبد أمامهم سبيل المجد والثروة على جماجم الآخرين لأن الناس ما داموا متفاوتين في حظوظهم من المواهب الفكرية والجسدية والفرص الطبيعية فمن الضروري أن يختلفوا في أسلوب الاستفادة من الحرية الاقتصادية الكاملة التي يوفرها المذهب الرأسمالي لهم وفي درجات هذه الاستفادة, ويؤدي هذا الاختلاف المحتوم بين القوي والضعيف إلى أن تصبح الحرية التعبير القانوني عن حق القوي في كل شيء، بينما لا تعني بالنسبة إلى غيره شيئا. ولما كانت الحرية الرأسمالية لا تقر بالرقابة – مهما كان لونها – فسوف يفقد الثانويون في معركة الحياة كل ضمان لوجودهم وكرامتهم، ويظلون في رحمة منافسين أقوياء لا يعرفون لحرياتهم حدودا من القيم الروحية والخلقية، ولا يدخلون في حسابهم الا مصالحهم الخاصة )). ( 109 )
تشير معطيات الفكر العالمي المعاصر بوضوح إلى أنّ هناك اتجاها متزايدا لتجاوز الرأسمالية النفعية, لأنّها أنتجت مفاهيم جدُّ متناقضة للعدالة الاجتماعية.
لقد أدرك ” راولس ” أنّ المشكلة التي تعاني منها الرأسمالية النفعية تكمن في أنّها لا تضمن العدالة في التوزيع, ولذلك اقترح إعادة النظر في توزيع الثروة من خلال تقديم مبادئ تضمن عدالة التوزيع لثروات المجتمع, كما أوضحنا ذلك عند دراستنا للمبدأ الأول. وقد تبين لنا أيضا عند دراستنا لذلك المبدأ أنّ معظم منتقدي ” راولس ” لم يختلفوا معه حول ضرورة تجاوز الصيغة التوزيعية للرأسمالية النفعية, ولكنهم اختلفوا معه في الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها التوزيع بحيث يكون عادلا.
النقطة الجديرة بالاهتمام – هنا – إنّ معظم التوجهات المعاصرة التي تتفق مع ” راولس ” أو تختلف معه ترتكز في تصوراتها – وهذا هو المهم – على أنّ لجميع أفراد المجتمع حق متساوي بشكل مسبق في الموارد العامة للمجتمع, وهذا هو ما يمنح هذه التوجهات الحق في الحديث عن توزيع متساوي لتلك الموارد العامة بين هؤلاء الأفراد. وهذا الفهم يقترب – كثيرا – مع ما دعا إليه المذهب الاقتصادي في الاسلام بوصفه عالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل، لأنه لم يكتف بمعالجة توزيع الثروة المنتجة، ولم يتهرب من الجانب الأعمق للتوزيع، أي توزيع مصادر الإنتاج، كما صنعت الرأسمالية المذهبية، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائما تحت شعار الحرية الاقتصادية التي تخدم الأقوى وتمهد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها بل إن الإسلام تدخل تدخلا إيجابيا في توزيع موارد الطبيعة، وما تضمه من مصادر إنتاج، وقسمها إلى عدة أقسام، لكل قسم طابعه المميز من الملكية الخاصة أو الملكية العامة وملكية الدولة أو الإباحة العامة , ووضع لهذا التقسيم قواعده، كما وضع الى صف ذلك أيضا القواعد التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتجة، وصمم التفصيلات في نطاق تلك القواعد )). ( 110 )
بحسب ” مايكل ساندل ” : يرى أصحاب اللبيرالية المشروطة ( ليبرالية المساواة ), مثل ” راولس ” وغيره أنّ الناس لا يمكنهم ممارسة حرياتهم السياسية والمدنية حقيقة من دون تلبية حاجاتهم الاجتماعية والسياسية الأساسية, لذلك فإنّ النظام السياسي مطالب – في نظر أنصار اللبرالية المشروطة – بضمان مستوى معيشة لائق لكل شخص على أساس أنّ ذلك حق له, من تربية وتعليم, واستفادة من دخل ومسكن, ورعاية صحية … وما إلى ذلك, وعلى العكس من ذلك يرى أصحاب اللبرالية المطلقة – مثل ” روبرت نوزيك ” و ” فردريك هايك ” – أنّ النظام السياسي مطالب باحترام الحريات السياسية والمدنية الأساسية, واحترام الحق في انتفاع الناس من ثمار عملهم كما يقتضي ذلك اقتصاد السوق, حيث تكون سياسات إعادة التوزيع التي تفرض ضرائب بغية مساعدة الفقير خرقا لحقوقهم. ( 111 )
و : (( لا تبتعد، في نظرنا، رؤية بعض اتجاهات الفكر الاشتراكي للعدالة التوزيعية عن رؤية الليبراليين المساواتيين التوزيعية. فلا يبدو لنا الفارق كبير بين ما يقترحه ” دووركين ” حول المساواة، وما تقترحه بعض النظريات الاشتراكية المتعلقة بالعدالة التعويضية التي تنشد، هي الأخرى توزيعا يتحمل فيه الأفراد نتائج اختياراتهم، ويتمتعون فيه بالمساواة الفعلية في الموارد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى فكرة ديمقراطية المالكين التي دافع عنها ” راولس ” أو فكرة مجتمع مالكي الأسهم التي دافع عنها ” رویمر “، بعد أن عدل موقفه في تواصل مع فكر ” راولس “. إذ تنسجم الفكرتان مع بعض أشكال من اشتراكية السوق، التي تهدف إلى تحقيق أكبر مساواة ممكنة على صعيد ملكية موارد الإنتاج، وتعتمد آليات اقتصاد السوق في توزيع السلع والخدمات )). ( 112 )
والجدير بالذكر : أنّ ” راولس ” قد ذهب إلى أبعد من حق الجماعة في الموارد إلى حقهم في اقتسام المواهب الطبيعية, فهو يرى – بحسب ” مايكل ساندل ” – أنّ أنّ من الضروري اعتبار توزع المواهب الطبيعية حيازة ” مشتركة ” أو ” جماعية” يجب تقاسمها بين أفراد المجتمع جملة, فـ ” راولس ” يقول : ” في الواقع, يمثل مبدأ الفرق اتفاقا على اعتبار توزع المواهب الطبيعية موردا مشتركا ينبغي تقاسم منافعه بصرف النظر عن شكل هذا التوزيع “, ويقول أيضا : ” إنّ مبدأي العدالة, كما أسلفت هما بمثابة الالتزام باعتبار توزع المواهب الطبيعية موردا جماعيا لا يستفيد منه الأكثر حظا إلا بالقدر الذي يسمح بمساعدة من هم أقل حظا “.
وهكذا، يعتقد ” راولس ” أنّ فكرة الحيازات المشتركة – كما هي مجسدة في مبدأ الفرق – تعبير عن الاحترام المتبادل بين الناس باعتباره مثلا تتوخى ليبرالية أخلاق الواجب إثباته. حيث يقول : ” تنظيم أشكال عدم المساواة على نحو يجعلها ذات منفعة متبادلة والامتناع عن استغلال عوارض الظروف الطبيعية والاجتماعية ضمن إطار من الحرية المتساوية، إنما هما الوسيلة التي يعبر بها الأشخاص عن احترام بعضهم بعضا داخل المجتمع )). ( 113 )
المبدأ الرابع : مبدأ الحرية المحدودة كمبدأ ضامن لتحقيق العدالة الاجتماعية
تختلف رؤى المذاهب المختلفة حول الحرية وحول طبيعة الحدود التي ينبغي أن تتقيد بها حريات الأفراد في المجتمع باختلاف المفاهيم التي تتبناها تلك المذاهب عن العدالة الاجتماعية. وبما أنّ الاقتصاد الاسلامي يتبنى مفهوما متميزا للعدالة الاجتماعية يختلف به عن مفهومي الاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي فمن الطبيعي أن يختلف الاقتصاد الإسلامي مع هذين الاقتصادين في حدود الحرية التي يمنحها للأفراد على المستوى الاقتصادي, فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي حريات الجميع, يقف الاسلام موقفه الذي يتفق مع طبيعته العامة، فيسمح للأفراد ممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل، التي تهذب الحرية وتصقلها وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها. ( 114 )
دراسة المبدأ الرابع على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
لا بد أن نشير, أولا, إلى أنّ المذهب الاقتصادي الإسلامي حينما يحد من حريات المسلمين لا يفعل ذلك على نحو قسري فالمسلمون ابتداء لم يكونوا مجبرين على الدخول في الاسلام ( لا إكراه في الدين ) ولكنهم بحكم أنّهم كانوا أحرارا في اختيارهم الانضمام للإسلام والتقيد بتعاليمه فإنّهم قد تقبلوا التقيد بتعاليمه بإرادتهم. وهذا النوع من تقييد الإنسان لحريته – في إطار دين معين أو مذهب معين أو أتجاه معين – بإرادته أمرا ليس بالمستنكر أو المرفوض في ضوء الفهم الدقيق لمبدأ الحرية منذ عصر الأنوار وحتى عالمنا المعاصر.
يؤكد المفكر الغربي ” تزفيتان تودوروف ” في كتابه ” روح الأنوار ” : إنّنا لا نجد في مفاهيم عصر الأنوار عن الحرية شيئا يذكر عن التجربة الدينية ذاتها, ولا عن فكرة التعالي, ولا عن هذا المذهب الأخلاقي أو ذاك الذي يتضمنه دين بعينه. لقد كان النقد موجها إلى بنية المجتمع لا إلى مضمون المعتقدات. إنّ تيار الأنوار، هذا التيار العظيم، لا ينتسب إلى الإلحاد بل ينتسب إلى الدين الطبيعي وإلى التأليهية أو إلى واحدة من نسخها العديدة. لقد انخرط مفكرو الأنوار في معاينة معتقدات العالم بأسره ووصفها، ولم يكن هدفهم من وراء ذلك رفض الأديان بل هدي الناس إلى موقف يتسم بالتسامح وحثهم على الدفاع عن حرية المعتقد )). ( 115 )
ويؤكد ” لوك فيري : (( أنّ الفلسفة تشاطر الدين الغاية الرامية إلى تحديد شروط حياة طيبة بالنسبة إلى البشر الفانين. ولكنها تريد بلوغ تلك الغاية من خلال استقلالية العقل وحدة الوعي، بالوسائل المتاحة وحدها, وبفضل القدرات وحدها التي يمتلكها الكائن البشري بنفسه. وبالطبع، لا يمنع ذلك بعض الفلاسفة من إدراج فكرة الإله في مذهبهم، وحتى أحيانا من إيلائها دورا مركزيا. )). ( 116 )
هكذا يتضح أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر لا تنكر على أيّ أحد أن ينتمي إلى أيّ دين أو إلى أيّ مذهب أخلاقي, وأن يقيد حريته بإرادته في ضوء ذلك الدين أو ذلك المذهب الأخلاقي, بل على العكس من ذلك وجدنا – بحسب ما تقدم – أنّ تلك المعطيات تشير إلى أنّ العودة إلى الدين والأخلاق هي عودة محمودة تساعد الإنسانية على الخروج من عصر الفراغ والتغلب على التناقضات الصارخة والإفرازات السيئة التي خلفتها تطبيقات الرأسمالية النفعية.
المبدأ الخامس : مبدأ التحديد الذاتي كأصل من الأصول الضامنة لتطبيق المبادئ والقوانين الاقتصادية بشكل سليم.
بحكم واقعية الاقتصاد الاسلامي وأخلاقياته وعدالته لا بد من توفر أصول ضامنة لتطبيق المبادئ والقوانين الاقتصادية بشكل سليم, ومن هذه الأصول ( مبدأ التحديد الذاتي ) الذي : (( ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية, فهو يتكون طبيعيا في ظل التربية الخاصة، التي ينشئ الاسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الاسلام في كل مرافق حياته ( المجتمع الإسلامي ). فإن للإطارات الفكرية والروحية التي يصوغ الاسلام الشخصية الاسلامية ضمنها حين يعطي فرصة مباشرة واقع الحياة وصنع التاريخ على أساسه قوتها المعنوية الهائلة، وتأثيرها الكبير في التحديد ذاتيا وطبيعيا من الحرية الممنوحة لأفراد المجتمع الاسلامي وتوجيهها توجيها مهذبا صالحا دون أن يشعر الأفراد بسلب شيء من حريتهم، لأن التحديد نبع من واقعهم الروحي والفكري، فلا يجدون فيه حدا لحرياتهم. ولذلك لم يكن التحديد الذاتي تحديدا للحرية في الحقيقة، وإنّما هو عملية إنشاء للمحتوى الداخلي للإنسان الحر، إنشاء معنوية صالحة، حيث تؤدي الحرية في ظله رسالتها الصحيحة )). ( 117 )
دراسة المبدأ الخامس على وفق معطيات الفكر العالمي المعاصر
يكتسب هذا المبدأ سلامته من سلامة فرضيات وسمات ومبادئ المذهب الاقتصادي الاسلامي التي دللنا على سلامتها على وفق معطيات الفكر العالمي المعاصر. فضلا عن أنّ هذه المعطيات تشير – وبشكل مباشر – وخاصة في حقل ( فلسفة الأحلاق ) على أهمية ودور مبدأ التحديد الذاتي كأصل ضامن لتطبيق المبادئ والقوانين الأخلاقية, حيث تبيّن هذه المعطيات أنّ المشكلات التي يعيشها العالم الغربي المعاصر تعود إلى ضعف هذا المبدأ لدى الإنسان الغربي نتيجة لانهيار المنظومات الدينية والفكرية التي يستمد منها هذا المبدأ قوته ورصيده. حيث يشهد العالم الغربي المعاصر إفلاسا معنويا, وفراغا نظريا, وتهافتا للأيديولوجيات والطوباويات, وانتصارا للفردانية …
تقول ” جاكلين روس ) في كتابها ” الفكر الأخلاقي المعاصر : (( إنّنا نحيا في زمن زالت فيه المرجعيات التقليدية، وحيث لم نبق نعرف بوجه الدقة ما هي الأسباب الممكنة لنظرية للأخلاق النظرية. ما الذي يتيح لنا اليوم أن نقول عن قانون إنه عادل ؟ إننا نجهل ذلك. وإنما في فراغ مطلق تولد الأخلاق النظرية المعاصرة، في المكان الذي انمحت فيه الأسس المألوفة، الانطولوجية والميتافيزيائية والدينية للأخلاق النظرية المحضة أو التطبيقية. إن أزمة الأسس التي تميز کوننا المعاصر بأسره، أزمة بينة في العلم، أو الفلسفة، أو حتى في الحقوق، تمس كذلك كون الأخلاق النظرية. بل إنّ أسس الأخلاق النظرية والأخلاق قد زالت … إننا نغرق بوجه الدقة في العدمية، حيث أنّ كل المرجعيات أو معايير الإلزام تتبدد، وإن القيم العليا تخسر قیمتها. العدمية تدل على الظاهرة الروحية المرتبطة بموت الإله والمثل فوق الحسية. ومن هذه العدمية تنبت الأزمة الحالية للأخلاق النظرية … ومثلما تتسم نهاية القرن بالعدمية، فإنها تحمل كذلك طابع موت الأيديولوجيات والحكايات الشمولية الكبرى، موت تترسخ فيه أخلاق المستقبل النظرية. إنّ عصرنا الذي طرد المذاهب والمنظومات الواحدية التي ظل يحفل بها دهرا طويلا، وقد أبعد عنه الخطابات الكبرى لتسويغ شرعية الواقع، هذا العصر قد زعزع زعزعة عميقة حقل الأخلاق النظرية.
وما موت الخطابات الكبرى سوى بعد ( أساسي، حاسم ) من تلك العدمية الشاملة التي نحيل عليها عدمية نحددها بوصفها مرحلة روحية تعوزها الأهداف، وتنحط فيها القيم العليا … عندما تنحل الأيديولوجيات تولد الأشكال المعاصرة للفردية, التي وصفها بوجه خاص ” جیل لیبوفتسکی ” في ” عهد الفراغ “، بأنّها لم تبق تشير إلى انتصار الفردانية على القواعد الإلزامية، بل تدل على إنجاز أفراد غريبين على الأنظمة، على القواعد، على شتى الإلزامات، على الخضوع لسلطة واحدة. ماذا نلقي في هذه الفردية المعاصرة ؟ متع النرجسية بأكثر مما نجد من سبيل للاستقلال الذاتي، نلقى تفجر الاستمتاع بأكثر من غزو الحرية. أولوية قيم الاستمتاع، إباحيات، نفسانیات، عبادة ” اللامتشنج “، شغف بالخصائص المزاجية الجامحة، ذاكم ما يرتسم في عصر ما بعد الحداثة. وعلى هذا النحو ولجنا عصر هذه النرجسية. فلقد انتهت المثل العليا المهدوية، وغاب الإيمان بالأيديولوجيات. وها هو ذا زمن الفرد النرجسي )). ( 118 )
والأسئلة الأساسية التي تطرحها فلسفة الأخلاق المعاصرة من أجل الخروج من المأزق الذي يعيشه العالم الغربي المعاصر تدور كلها حول الكيفية التي يمكن من خلالها إيجاد منظومات أخلاقية تلزم الفرد بتحديد ذاته في إطارها,
تقول ” جاكلين روس ” ” (( عدمية، وموت الأيديولوجيات، وانبثاق الفرد الخاص والتقانات الجديدة ، كل ذلك يقود إذن إلى تحول الوجدان الأخلاقي المشترك ومبادىء المجتمع المعيارية. وعندما ينفتح لعهد الفراغ، وتُفقَد المتعاليات، يطرح عدد كبير من الأسئلة الحاسمة : في عالم نكف فيه عن الرجوع إلى مباحث غائيات وإلى انسجامات كانت متراكبة فيما سلف، وحيث لا يستطيع إله كوني أو أساس إلهي تقديم هيكله للأخلاق النظرية، كيف نشكل مفهومات أو مبادئ قيمية جديدة وننظمها، كيف نبتكر أخلاقا نظرية جديدة ؟ في قلب هذا الفراغ ذاته، وهذا الامحاء للمعني، عندما تتكشف القيم والأفعال على أنها غير ذات أساس، تطرح إذن مسألة مبادئ العمل الجديد وأسسه. كيف نحكم ؟ كيف نتحدث عن خطيئة، عن معايير أخلاق نظرية، عن أوامر ؟ من أي منطلق ؟ إن الأخلاق النظرية، شأنها شأن جميع البحوث المعاصرة تجد ذاتها اليوم مزعزعة من حيث منطلق ممارستها ذاته. فالأمر الأساسي ( الأسس ) يعوزنا اليوم.
وغروب المعنى يطرح التساؤل عن ” واجب – الكون “، عن الآمر، بل وعن الإلزام عينه … إذا كانت الفردية الحديثة، بدل أن تكون فضيلة واستقلالا ذاتيا، أخذت تدل على السلبية، بل على اللاحساسية، على الأسلوب البارد واللا متشنج، إذ ذاك يطرح على الباحث في الأخلاق النظرية السؤال الآتي : ما الذي يستطيع أن يغدو عامل قبول كلي في مجتمعاتنا المعاصرة المتقدمة ؟ هل يكون من الممكن، في عصر البشر ” المجوفين ” الآيلين إلى اختيارات خاصة ونرجسية، العثور من جديد على أخلاق نظرية واسعة تصلح للبشرية بجملتها ؟ فإذا كانت الفردية تحور حداثتنا المتقدمة، وإذا كان المجتمع قد تجزأ على هذا المنوال إلى غبار لا نهائي من ” النراجسة “، فكيف يطلب للأخلاق النظرية مبدأ يتحلى بصلاحية كلية ؟ يقول ” جاك مونود” : ” لا يقدر أي مجتمع على أن يبقى دون قانون أخلاقي يستند إلى قيم تفهمها أغلبية أعضائه وتقبلها وتحترمها. لم يبق لدينا أي شيء من ذلك. هل تستطيع المجتمعات الحديثة السيطرة، سيطرة لا محددة على القدرات النزوائية التي تقدمها لنا معطيات العلم على معيار إنسانية مبهمة، مصبوغة بنوع من مطالب استمتاع متفائل مادي النزعة ؟ هل تستطيع، على هذه الأسس حل توتراتها التي لا تطاق ؟ أيان ستنهار ؟ “.
هذه الكلمات المنطوقة عام (1980) توحي لنا بطائفة من الاتجاهات المهمة : التفكير في الأخلاق النظرية اليوم، التفكير في القانون الأخلاقي وفي تأسيس ما وراء أخلاق طريفة وفي مبحث قيم طريف، أليس ذلك بمثابة مشكلة بقاء في مجتمعات تجرب إما الفراغ في الأخلاق النظرية أو نوعا من نزعة إنسانية غامضة إلى الاستمتاع ؟ إن إعادة صوغ الأخلاق النظرية آمر : ومثل هذا التفكير يندرج في قلب الأشياء الملحة في مجتمع خلو من المرجعيات، وسط هذا الاختلاط المعاصر. إننا نتذكر الأسئلة الثلاثة الكبرى التي كان ” كانت Kant ” يطرحها في ” نقد العقل المحض ” : ماذا يمكن أن أعلم ؟ ماذا يجب أن أفعل ؟ ماذا آمل ؟ فكيف يجاب، بعد مرور قرنين، عن السؤال الثاني، تلكم نواة من نوى تساؤلاتنا الحالية. كيف نفكر اليوم في الواجب، كيف نعيد صياغته بحدود موائمة تتكيف مع عصرنا، على نحو يحل توتراتنا التي لا تطاق ؟ )). ( 119 )
المبدأ السادس : مبدأ التحديد الموضوعي ( دور الدولة ) كأصل من الأصول الضامنة لتطبيق المبادئ والقوانين الاقتصادية بشكل سليم
يقول السيد الصدر : (( يعبّر هذا الأصل عن قوة خارجية تحدّد السلوك الاجتماعي وتضبطه. فهو يُفرَض على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارج بقوة الشرع. ويقوم هذا التحديد الموضوعي للحرية في الإسلام على المبدأ القائل : إنّه لا حرية للشخص فيما نصت عليه الشريعة المقدسة من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها.
وقد تم تنفيذ هذا الأصل في الإسلام بالطريقة التالية :
أولا : كفلت الشريعة في مصادرها العامة النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية المعيقة – في نظر الإسلام – عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الاسلام ، كالربا والاحتكار وغير ذلك .
وثانيا : وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال. وقد كان وضع الاسلام هذا المبدأ ضروريا لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مر الزمن. فإن متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو اليها الاسلام تختلف باختلاف الظروف الاقتصادية للمجتمع والأوضاع المادية التي تكتنفه فقد يكون القيام بعمل مضرا بالمجتمع وكيانه الضروري في زمان دون زمان، فلا يمكن تفصيل ذلك في صيغ دستورية ثابتة وإنّما السبيل الوحيد هو فسح المجال لولي الأمر ليمارس وظيفته بصفته سلطة مراقبة وموجهة ومحددة لحريات الأفراد فيما يفعلون او يتركون من الأمور المباحة في الشرع، وفقا للمثل الاسلامي في المجتمع — فللسلطة الاسلامية العليا إذن حق الطاعة والتدخل لحماية المجتمع وتحقيق التوازن الإسلامي فيه على أن يكون هذا التدخل ضمن دائرة الشريعة المقدسة. فلا يجوز للدولة او لولي الأمر أن يحلل الربا، او يجيز الغش، او يعطل قانون الإرث، او يلغي ملكية ثابتة في المجتمع على أساس إسلامي. وإنّما يسمح لولي الأمر في الإسلام بالنسبة الى التصرفات والأعمال المباحة في الشريعة أن يتدخل فيها، فيمنع عنها او يأمر بها وفقا للمثل الاسلامي للمجتمع. فإحياء الأرض، واستخراج المعادن، وشق الأنهار، وغير ذلك من ألوان النشاط والاتجار أعمال مباحة سمحت بها الشريعة سماحاً عاما ووضعت لكل عمل نتائجه الشرعية التي تترتب عليه، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع عن القيام بشيء من تلك التصرفات او يأمر به، في حدود صلاحياته .. كان له ذلك ، وفقا للمبدأ الأنف الذكر. ( 120 )
دراسة المبدأ السادس على وفق معطيات الفكر العالمي المعاصر
إنّ دعوة المذهب الاقتصادي الاسلامي إلى بناء دولة قوية قادرة على إدارة الحياة الاقتصادية دون التضحية بدور القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني بشرط عدم إضعاف الدولة والإضرار بالحياة الاقتصادية المخطط لها من قبل الدولة ينسجم تماما مع التوجهات المعاصرة في ” بناء الدولة “.
يقول ” فوكوياما ” في كتابه ” بناء الدولة ” : (( في الكتاب الحالي، سوف أجادل بأن بناء الدولة يشكل اليوم أحد أهم قضايا المجتمع العالمي، لأن الدول الضعيفة أو الفاشلة تبقي مصدر العديد من أكثر مشاكل العالم خطورة، من الفقر إلى المرض إلى المخدرات إلى الإرهاب. قد يبدو للبعض أن طرح فكرة بناء الدولة – وليس تحجيمها أو تقليص دورها، ووضعها على قمة أولويات الأجندة المعاصرة – ضرب من المشاكسة والشذوذ عن المألوف. فالنزعة السائدة في السياسة العالمية خلال الجيل الماضي كانت، ولا تزال، نقد “الحكومة الكبيرة “، ومحاولة نقل نشاطاتها من القطاع العام إلى الأسواق الخاصة أو مؤسسات المجتمع المدني. لكن الحكومات الضعيفة أو عديمة الكفاءة أو غير الموجودة أصلا، في الدول النامية تحديدا، تشكل مصدر الكثير من المشاكل الحادة …
شددت النصائح التي أسدتها المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالإضافة إلى حكومة الولايات المتحدة على ضرورة اتخاذ مجموعة تدابير تهدف إلى الحد من درجة تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية. أحد المشاركين في صياغة رزمة التدابير هذه أطلق عليها اسم “إجماع واشنطن”، في حين أسماها نقادها وأعداؤها في أمريكا اللاتينية ” الليبرالية الجديدة “. تعرض إجماع واشنطن إلى هجوم شديد ومتواصل في بدايات القرن الحادي والعشرين، ليس فقط من قبل المتظاهرين ضد العولمة، بل أيضا من قبل أكاديميين يتمتعون بمصداقية عالية ومكانة مرموقة في عالم الاقتصاد.
إنّ المراجعة المتبصرة لأحداث الماضي تثبت أن لم يكن ثمة خطأ في إجماع واشنطن بحد ذاته، فقطاعات الدولة في الدول النامية شكلت في حالات كثيرة جدا عقبات حقيقية أمام النمو الاقتصادي، ولم يكن إصلاحها على المدى البعيد ممكنا إلا من خلال الليبرالية الاقتصادية، المشكلة تكمن في أن الحاجة إلى تقليص دور الدولة في بعض المجالات كان يجب أن يتزامن مع تقوية دورها في مجالات أخرى. وقد أدرك الاقتصاديون الداعون إلى إجراء إصلاحات ليبرالية هذه الحقيقة تماما على الصعيد النظري، لكن التركيز النسبي في تلك الفترة انصب بشكل أكبر بكثير على تقليص نشاطات الدولة، الأمر الذي يمكن إساءة تفسيره عمدا، أو الخلط بينه وبين محاولة تحجيم قدرات الدولة في المجالات كافة.
إن أجندة بناء الدولة، والتي لا تقل أهمية عن أجندة تقليص دورها، لم تعط قدرة موازية من الاهتمام والتفكير، فكانت النتيجة فشل الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية في تحقيق الوعود التي قطعتها على نفسها في العديد من دول العالم، وفي العديد من دول العالم، أدى غياب الإطار المؤسساتي الملائم إلى ترك تلك الدول في وضع أسوأ مما كان يمكن أن تكون عليه في الواقع بغياب تلك الإصلاحات. لقد كانت المشكلة الحقيقية فشلا مفهوماتيا أساسا بأبعاد الدولة الواجب تحريرها، وبعلاقة هذه الأبعاد المختلفة بعملية التطوير الاقتصادي … من المنطقي. إذن، التمييز بين مدى فعاليات أو نشاطات الدولة، الذي يشير إلى الوظائف والأهداف المختلفة التي تضطلع بها الحكومات؛ وبين قوة سلطة الدولة، أي قدرة الدول على تخطيط وتنفيذ سياساتها وفرض القوانين بإنصاف وشفافية, وهو ما يشار إليه حاليا باسم قدرة الدولة أو القدرة المؤسساتية. لعل أحد أسباب الخلط في فهمنا طبيعة الدولة يكمن في استخدام كلمة قوة بشكل اعتباطي لا يفرق بين ما أسميناه هنا مدى الدولة وبين قدرة أو قوة الدولة )). ( 121 )
المبدأ السابع : مبدأ الملكية المزدوجة كتجسيد للعدالة عبر الموازنة بين النزعة الفردية والنزعة الاجتماعية
لا يتفق الاقتصاد الاسلامي – بحكم كونه اقتصادا واقعيا وأخلاقيا يؤمن بالعدالة الاجتماعية – مع الرأسمالية في القول بأن الملكية الخاصة هي المبدأ العام، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأ عاما، بل إنّه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة ( الملكية ذات الأشكال المتنوعة ) بدلا عن مبدا الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة. ويخصص لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلا خاصا تعمل فيه، ولا يعتبر شيئا منها شذوذا، واستثناءً أو علاجا موقتا اقتضته الظروف — ثم إنّ تنوع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي لا يعني أنّ الاسلام مزج بين المذهبين : الرأسمالي والاشتراكي وأخذ من كل منهما جانبا, وإنّما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد فكرية معية، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم تناقض الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة والاشتراكية الماركسية.
وليس هناك أدل على صحة الموقف الاسلامي من الملكية القائمة على أساس مبدأ الملكية المزدوجة من واقع التجربتين الرأسمالية والاشتراكية, فإنّ كلتا التجربتين اضطرتا الى الاعتراف بالشكل الأخر للملكية الذي يتعارض مع القاعدة العامة فيها، لأن الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للملكية. ( 122 )
دراسة المبدأ السابع على ضوء معطيات الفكر العالمي المعاصر
لا يكتسب هذا المبدأ سلامته, فقط, من سلامة سمات المذهب الاقتصادي الاسلامي التي يشتق منها هذا المبدأ, والتي دللنا سابقا على أنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر تؤكد سلامتها, بل يكتسبها أيضا – وكما أشار السيد الصدر فيما نقلناه عنه أعلاه – من أنّه (( ليس هناك أدل على صحة الموقف الاسلامي من الملكية القائمة على أساس مبدأ الملكية المزدوجة من واقع التجربتين الرأسمالية والاشتراكية, فإنّ كلتا التجربتين اضطرتا الى الاعتراف بالشكل الأخر للملكية الذي يتعارض مع القاعدة العامة فيها، لأن الواقع برهن على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للملكية. ( 123 )
المبدأ الثامن : تنمية الانتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد ممكن هو هدف طريق وليس هدف غاية تجسيدا للعدالة الاجتماعية عبر تحقيق الرخاء العام وتوزيع الثروة بشكل عادل
آمن الاسلام بمبدأ تنمية الانتاج، وفرض على المجتمع الإسلامي السير وفقا له، وجعل تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة الى اقصى حد ممكن هدفا للمجتمع يضع في ضوئه سياسته الاقتصادية التي يحددها الاطار المذهبي العام من ناحية، والظروف والشروط الموضوعية للمجتمع من ناحية اخرى، وتمارس الدولة تنفيذها ضمن تلك الحدود. ( 124 ) وقد جاء هذا الهدف مغلف بالاطار المذهبي ومحدد بحدود المذهب كما يقرره القرآن الكريم : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ). فالنهي عن الاعتداء في مجال الانتفاع بالطبيعة واستثمارها تعبير بالطريقة القرآنية عن ذلك الإطار المذهبي. ( 125 )
والاسلام حين تبني هذا المبدأ ووضع تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة هدفا للمجتمع الإسلامي، جنّد كل إمكاناته المذهبية لتحقيق هذا الهدف وإيجاد المقومات والوسائل التي يتوقف عليها. فهناك وسائل مذهبية ( فكرية وتشريعية ) من وظيفة المذهب الاجتماعي إيجادها وضمانها، وهناك وسائل تطبيقية بحتة، تمارسها الدولة التي تتبنى ذلك المذهب الاجتماعي، برسم سياسة عملية تواكب الاتجاه المذهبي العام. ( 126 ) إذ ترك الاسلام للدولة أن تدرس الشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية، وتحصي ما في البلاد من ثروات طبيعية، وتستوعب ما يختزنه المجتمع من طاقات، وما يعيشه من مشاكل، وتضع على ضوء ذلك كله، وفي الحدود المذهبية السياسة الاقتصادية التي تؤدي إلى زيادة الانتاج ونمو الثروة، وتضمن يسر الحياة ورخاء المعيشة. ( 127 )
ونحن في دراستنا للمذهب في الاسلام، او حين ندرس اي مذهب اقتصادي آخر، وموقفه من الانتاج لا يكفينا أن نعرف إيمان المذهب بمبدأ تنمية الانتاج والثروة، بل يجب أن نستوعب الاساس الفكري لذلك، الذي يشرح مفهوم المذهب عن الثروة ودورها وأهدافها. فان تنمية الثروة تتكيف وفقا لأساسها الفكري والنظرة العامة التي ترتبط بها, فقد تختلف تنمية الثروة على أساس فكري معين عن تنميتها على أساس فكري آخر تبعا لما يفرضه الأساس الفكري من إطار للتنمية وأساليب لتحقيقها.
وفي سبيل تحديد الأساس الفكري للتنمية لا يمكن أن نفصل المذهب الاقتصادي – بوصفه جزءا من مركب حضاريّ كامل – عن الحضارة التي ينتمي إليها ومفاهيمها عن الحياة والكون. ( ص128 )
وفيما يتصل بنظرة الاسلام إلى الثروة يمكننا أن نحدد نظرة الاسلام إليها على أنها هدف من الأهداف المهمة ولكنه هدف طريق لا هدف غاية, فليست الثروة هي الهدف الأصيل الذي تضعه السماء للإنسان الاسلامي على وجه الأرض، وإنّما هي وسيلة يؤدي بها الانسان الاسلامي دور الخلافة، ويستخدمها في سبيل تنمية جميع الطاقات البشرية والتسامي بإنسانية الانسان في مجالاتها المعنوية والمادية فتنمية الثروة والانتاج لتحقيق الهدف الأساسي من خلافة الانسان في الأرض هي نعم العون على الآخرة، ولا خير فيمن لا يسعى اليها، وليس من المسلمين بوصفهم حملة رسالة في الحياة من تركها وأهملها.
وأما تنمية الثروة والانتاج لأجل الثروة بذاتها، وبوصفها المجال الاساسي الذي يمارس الانسان فيه حياته ويغرق فيه، فهي رأس كل خطيئة، وهي التي تبعد الانسان عن ربه، ويجب الزهد فيها. فالإسلام يريد من الانسان الاسلامي أن ينمي الثروة ليسيطر عليها، وينتفع بها في تنمية وجوده ككل لا لتسيطر عليه الثروة وتستلم منه زمام القيادة, وتمحو من أمامه الاهداف الكبرى. فالثروة وأساليب تنميتها التي تحجب الانسان الاسلامي عن ربه، وتنسيه أشواقه الروحية، وتعطل رسالته الكبرى في إقامة العدل على هذا الكوكب، وتشده إلى الأرض لا يقرها الاسلام، والثروة وأساليب التنمية التي تؤكد صلة الانسان الاسلامي بربه المنعم عليه، وتهيء له عبادته في يسر ورخاء، وتفسح المجال أمام كل مواهبه وطاقته للنمو والتكامل، وتساعد على تحقيق مثله في العدالة والأخوة والكرامة هي الهدف الذي يضعه الاسلام امام الانسان الاسلامي، ويدفعه نحوه. ( ص129 )
ولهذا يرفض الاسلام النظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن نوع توزيعها, فالإسلام يرفض هذه النظرة ويربط تنمية الثروة – كهدف – بالتوزيع ومدى ما يحقق نمو الثروة لأفراد الأمة من يسر ورخاء، لأن تنمية الثروة في مفهوم الاسلام هدف طريق لا هدف غاية كما عرفنا. فما لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد، وتوفر لهم الشروط التي تمكنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيرة وتحقيق رسالتهم، فلن تؤدي تنمية الثروة دورها الصالح في حياة الانسان. ( 130 )
وعلى هذا الأساس فالإسلام حين يضع تنمية الانتاج هدفا للمجتمع يجعل نصب عينيه ارتباط هذه التنمية باليسر والرخاء العام, ولهذا يرفض من أساليب التنمية ما يتعارض مع ذلك ويضر بالناس بدلا عن تيسير الحياة لهم. ويمكننا ان نقدر على هذا الضوء ان الاسلام لو كان قد استلم زمام القيادة بدلا عن الرأسمالية في عصر ولادة الآلة البخارية، لما سمح باستعمال الآلة الجديدة التي ضاعفت الانتاج بقدر ما أطاحت بالآلاف من الصناع اليدويين إلا بعد أن يتغلب على المشاكل والاضرار التي تجلبها الآلة لهؤلاء، لأن التنمية التي تحققها الألة قبل التغلب على تلك المشاكل والاضرار سوف لن تكون هدف طريق بل هدف غاية. ( 131 )
وأخيرا فإنّ الاسلام يرى أنّ المشكلة الاقتصادية القائمة على أساس تصور واقعي للأمور لم تنشأ من ندرة موارد الانتاج وبخل الطبيعة. ( 132 ) وينظر الى المشكلة من ناحيتها الواقعية القابلة للحل كما نجد ذلك في قوله تعالى : ( والله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الانسان لظلوم كفار ) فان هذه الآيات الكريمة بعد أن استعرضت مصادر الثروة التي أنعم الله تعالى بها على الانسان أكدت أنها كافية لإشباع الانسان وتحقيق سؤله ( وأتاكم من كل ما سألتموه ) فالمشكلة الواقعية لم تنشأ عن بخل الطبيعة او عجزها عن تلبية حاجات الانسان. وإنما نشأت من الانسان نفسه كما تقرره الآية الأخيرة ( إن الإنسان الظلوم كفار ). فظلم الانسان في توزيع الثروة وكفرانه للنعمة بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها عليه استغلالا تاما هما السبيان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الانسان البائس منذ أبعد عصور التاريخ، وبمجرد تفسير المشكلة على أساس انساني يصبح بالإمكان التغلب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة بإيجاد علاقات توزيع عادلة، وتعبئة كل القوى المادية لاستثمار الطبيعة واستكشاف كل كنوزها. ( 133 )
دراسة المبدأ الثامن على وفق معطيات الفكر العالمي المعاصر
إنّ المذهب الاقتصادي الاسلامي بوصفه مذهبا دينيا وأخلاقيا وواقعيا وعادلا, فإنه بموجب هذه السمات لا بد وأن يكون هدفه من تنمية الانتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد ممكن هدف طريق وليس هدف غاية, وبما أننا قد دللنا على سلامة هذه السمات بالقياس إلى معطيات الفكر العالمي المعاصر فمن الطبيعي أن يكون هذا المبدأ هو سليم أيضا بالقياس لتلك المعطيات, ذلك أنّ هذا المبدأ ينسجم تماما مع تلك السمات.
ولكن يمكن التأكيد أيضا على سلامة هذا المبدأ من طريق معطيات الفكر العالمي المعاصر بشكل مباشر, وفيما يأتي توضيح ذلك :
تشير معطيات الفكر العالمي المعاصر إلى أنّ المذهب الاقتصادي الرأسمالي الذي اتحذ من تنمية الانتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد ممكن هدف غاية وليس هدف طريق قد أفرزت لنا تطبيقاته واقعا أليما ومؤسفا, فالعالم اليوم نتيجة لهذه الرؤية الخاطئة يسير نحو الهاوية.
يقول المفكر الغربي ” إدغار موران ” في كتابه ” هل نسير إلى الهاوية ” واصفا الآثار الأليمة التي خلفتها الرأسمالية نتيجة عدم تقييد أهدافها بأي مبادئ دينية أو أخلاقية, ما نصه : (( خلقت عولمة السوق الاقتصادية المفتقرة إلى تقنين خارجي وإلى تقنين ذاتي حقيقي، جزيرات جديدة من الثراء، وخلقت مناطق متنامية من الفقر كما في أمريكا اللاتينية وفي الصين. وقد كانت هذه العولمة ولا تزال كذلك سببا في خلق أزمات لا تفتأ في تناسل، وتسير في اتساع واستشراء حتى باتت تتهدد بالفوضى والسديم. وقد صارت أشكال التطور الواقعة في العلوم والتقنيات والصناعة والاقتصاد، وهي المحرك اليوم للمركبة الفضائية الأرض، لا يحكمها شيء من سياسة ولا أخلاق ولا فكر )). ( 134 )
إنّ حياتنا اليوم تتعرض للخطر من جهات عدة ( تلوث الهواء – تلوث الماء ونقصه – فقدان واندثار الغابات والمراتع وغير ذلك مما يمنح محيطنا وبيئتنا الازدهار والصفاء – تدمير الحياة في المحيطات – زيادة فقر التربة يوما بعد آخر – الفقر الشديد – ولادة وظهور أمراض جديدة – حدوث حرب ذرية – أخطار على وجود الجنس البشري بسبب التجارب في مجال التقنية الحيوية ) وتشير معظم الدراسات الى أن السبب الذي يقف وراء وجود هذه المخاطر وتفاقهما هو جشع الانسان في استثمار الطبيعة إلى أقصى حد ممكن دونما أي اعتبار للأضرار الجانبية الكبيرة التي يمكن أن تنتج عن ذلك الاستثمار.
ولعل هذا هو ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة ” غوتيريش ” أن يحذر وبشكل صريح من الاستمرار في هذا الطريق, حيث وجه الأمين العام دعوة للمشاركين في مؤتمر المناخ ” كوب 26 ” لبذل كل ما في وسعهم لـ ” إنقاذ البشرية “, وقال متوجها إلى عشرات قادة العالم المجتمعين في إطار ” كوب 26 ” في غلاسكو: ” لقد آن الأوان للقول كفى “، مضيفاً : ” كفى لانتهاك التنوع البيولوجي. كفى لقتل أنفسنا بالكربون. كفى للتعامل مع الطبيعة كمكب قمامة. كفى للحرق والحفر والاستخراج على أعماق أكبر. إننا نحفر قبورنا بأنفسنا “. وخاطب الأمين العام للأمم المتحدة المؤتمرين قائلا : ” اختاروا إنقاذ مستقبلنا وإنقاذ البشرية “، معتبراً أنّ الإنسانية ” دُفعت إلى حافة الهاوية ” بسبب ” إدماننا على الوقود الأحفوري “.
وأوضح أنه بالنسبة للدول الجزرية على وجه الخصوص، المهددة بارتفاع مستوى سطح البحر، سيكون فشل ” كوب 26 ” في تكثيف الجهود للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري بمثابة ” حكم إعدام “.
والسؤال الكبير الذي يطرح هنا : إذا كان أمر إيقاف انحدار البشرية إلى الهاوية بيد البشرية نفسها, فلماذا لا تفعل البشرية ذلك ؟ لماذا هذا الإصرار على أن تدفع البشرية إلى الهاوية ؟
يجيب المفكر الأمريكي ” جيمس مارتن ” في كتابه ” معنى القرن الحادي والعشرين ” عن هذا السؤال قائلا : هناك اليوم عقبات رئيسة تقف في وجه الحل وإنقاذ البشرية, فهناك مصالح خاصة تترافق بأسباب مالية ضخمة للحيلولة دون تغيير المسار. وهناك فساد واسع النطاق وإعانات مالية ضخمة للقيام بالفعل الخطأ. والسياسيون في البلدان الديموقراطية يركزون على كسب الأصوات. فتهيمن على تفكيرهم الانتخابات التالية، ويتوق كبار الموظفين الأقوياء في المؤسسات إلى تحقيق أرباح قصيرة الأجل. وتتمثل مهمتهم بإرضاء حملة الأسهم، الذين يحكمون عليهم وفقا لنتائج الربح. إن الرغبة بأرباح قصيرة الأجل، لدى الناس الأقوياء الذين يوجهون الأحداث، سحق الرغبة بحل المشكلات الطويلة الأجل. ) 135 )
أما فيما يتعلق بأنّ الاسلام يرى أنّ المشكلة الاقتصادية القائمة على أساس تصور واقعي للأمور لم تنشأ من ندرة موارد الانتاج وبخل الطبيعة, كما تذهب إلى ذلك الرأسمالية, وإنما نشأت من الانسان نفسه فظلم الانسان في توزيع الثروة وكفرانه للنعمة بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضل الله بها عليه استغلالا تاما هما السبيان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الانسان البائس منذ أبعد عصور التاريخ، وبمجرد تفسير المشكلة على أساس انساني يصبح بالإمكان التغلب عليها، والقضاء على الظلم وكفران النعمة بإيجاد علاقات توزيع عادلة، وتعبئة كل القوى المادية لاستثمار الطبيعة واستكشاف كل كنوزها. ( 136 )
فإنّه لتصريح مهم ذاك الذي يقول إن الزيادة في ثروة العالم ستكون أكبر بكثير منها في عدد سكانه. وهذا ما يقدم أملا بأن العالم سيكون مكانا أكثر لياقة لمعظم البشرية. ولكن توزيع هذه الزيادة في الثروة سيكون متفاوت جدا. فالثروة الجديدة ستعتمد، إلى حد بعيد، على الفكر، وبالتالي ستذهب الأكثرية الساحقة منها إلى البلدان التي هي أغنى في الوقت الحاضر، وتمتلك أفضل الجامعات، بينما ستنزلق البلدان الأكثر فقرا إلى المزيد من الفقر ما لم يتم بذل جهد حسن التخطيط للحيلولة دون حدوث هذا. ( 137 )
الفصل الثالث : نتائج البحث والتوصيات
نتائج البحث :
أولا : إنّ الدراسة الجادة لمعطيات الفكر العالمي المعاصر على المستوى الاقتصادي قد أثبتُ أنّ أيّ مجتمع لا يمكنه أن يشخص مشاكله الاقتصادية ويعالجها بشكل سليم بمناهج غريبة عن ثقافته, وأنّ عمليّة التنميّة الاقتصاديّة في أيّ مجتمع يجب أن يشترك فيها ويساهم بلون وآخر المجتمع كله. وبذلك يثبت أنّ فرضيّة السيد الصدر التي رأى فيها : ” إنّ النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي والوحيد الذي يجب على الأمة الاسلامية أن تحقق حياتها ضمنه وتنشئ كيانها على أساسه ” لم تكن مجرد ادعاء مبني على تحيّز عقائدي, بل كانت تشخيصا ينطلق من تحديد دقيق للشرط الأساس الذي ينبغي أنْ يتوفر عليه أي منهج اقتصادي مقترح لمعالجة المشكلة اقتصادية التي تعاني منها الأمة الاسلامية.
ثانيا : إنّ المذهب الاقتصادي في الاسلام لا يمكن أن يؤتي ثماره في مجتمع يعيش حياةً اجتماعية إسلامية منقوصة, لأنّ المذهب الاقتصادي في الإسلام هو جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية الإسلامية, وما لم يستكمل المجتمع الإسلامي أرضيته وصيغته العامة، فعلينا أن لا نترقب من الاقتصاد الإسلامي أن يقوم برسالته الفذة في الحياة الاقتصادية وأن يضمن للمجتمع اسباب السعادة والرفاه.
ثالثا : إنّ التأمل الدقيق في معطيات الفكر العالمي المعاصر يثبت – وبشكل واضح – مدى دقة الاقتصاد الاسلامي وقدرته في تشخيص المشكلة الاقتصادية ومعالجتها بشكل سليم. وبذلك يثبتُ سلامة فرضية السيد الصدر التي رأى فيها أنّ المشكلة الاقتصادية سوف لن تجد حلّها إلا على ضوء مفاهيم الاسلام ومبادئه.
رابعا : إنّ الإطار الديني الذي يمتاز به المذهب الاقتصادي الاسلامي هو الذي يجعله قادرا على النجاح وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان؛ ذلك أنّ الدين يوفر للإنسان – من جهة – معرفة بالتنظيم الاجتماعي الذي يكفل له مصالحه, ومن جهة ثانية يوفر الدين للإنسان الدافع النفسي لإيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه بما يضمن تحقيق المصلحة الاجتماعية للإنسان, فضلا عن أنّ الدين يمثل حاجة فطرية للإنسان.
خامسا : إنّ الإسلام قادر على قيادة الحياة وتنظيمها ضمن أطره الحية دائما؛ ذلك أنّ أحكامه في الثروة تشتمل على عناصر ثابتة منصوص عليها في الكتاب والسنة وعناصر مرنة ومتحركة تُستمَد – على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف – من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة.
سادسا : إنّ التأملَ الدقيقَ في معطيات الفكر العالمي المعاصر التي أتاحت لنا المقارنة بين المذهب الاقتصادي في الاسلام والمذاهب الأخرى قادنا إلى التدليل على أنّ المذهب الاقتصادي في الاسلام كان هو المذهب الوحيد الذي أبدى وجهة نظر واقعية حول مختلف القضايا الاقتصادية.
سابعا : إنّ أحد أهم مقومات نجاح الاقتصاد الاسلامي أنّه اقتصاد أخلاقي من حيث الطريقة والغاية.
ثامنا : إنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر أخذت منذ فترة من الزمن منحى تصاعديا يتضح من خلاله إخفاق الرأسمالية ومحاولة تجاوزها, لأنّها أنتجت مفاهيم جدُّ متناقضة للعدالة الاجتماعية. والتوصل إلى أفكار صائبة كان قد توصل إليها مسبقا المذهب الاقتصادي الاسلامي.
تاسعا : ليس في معطيات الفكر العالمي المعاصر ما هو أوضح من إقرار الجميع بأهمية ما ذهب إليه الاقتصادي الاسلامي في التأكيد على التكافل العام في المجتمع ودوره في حماية الأفراد الأقل حرمانا من الانزلاق إلى مستوى معيشي يعجزون فيه عن توفير حاجاتهم الأساسية.
عاشرا : إنّ معظم التوجهات المعاصرة تتفق على أنّ لجميع أفراد المجتمع حق متساوي بشكل مسبق في الموارد العامة للمجتمع, وهذا هو ما يمنح هذه التوجهات الحق في الحديث عن توزيع متساوي لتلك الموارد العامة بين هؤلاء الأفراد. وهذا الفهم يقترب – كثيرا – مع ما دعا إليه المذهب الاقتصادي في الاسلام بوصفه عالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل، لأنه لم يكتف بمعالجة توزيع الثروة المنتجة، ولم يتهرب من الجانب الأعمق للتوزيع، أي توزيع مصادر الإنتاج، كما صنعت الرأسمالية المذهبية.
أحد عشر : إنّ معطيات الفكر العالمي المعاصر تشير – بوضوح – إلى أنّ العودة إلى الدين والأخلاق هي عودة محمودة تساعد الإنسانية على الخروج من عصر الفراغ والتغلب على التناقضات الصارخة والإفرازات السيئة التي خلفتها تطبيقات الرأسمالية النفعية.
إثنا عشر : إنّ دعوة المذهب الاقتصادي الاسلامي إلى بناء دولة قوية قادرة على إدارة الحياة الاقتصادية دون التضحية بدور القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني بشرط عدم إضعاف الدولة والإضرار بالحياة الاقتصادية المخطط لها من قبل الدولة ينسجم تماما مع التوجهات المعاصرة في ” بناء الدولة “.
التوصيات :
1 – على الرغم من وفرة الموارد الطبيعية في بلدنا العزيز, وما يمتلكه من طاقات ذهنية خلاقة, ورأس مال اجتماعي هائل, إلا أن الحياة الاقتصادية فيه لا ترقى إلى المستوى المناسب.
ومن الواضح أنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الدولة لم تستند في نشاطها الاقتصادي على مذهب اقتصادي محدد ترسم على وفقه سياساتها الاقتصادية, مما جعل فعالياتها الاقتصادية مبنية على الارتجال ومفتقدة للدراسة والتخطيط.
من هنا يتضح أنّ على الدولة أن تعيد حساباتها في هذا المجال, وأن تسعى جاهدة إلى تشكيل لجان من ذوي الخبرة في المجال الاجتماعي والاقتصادي تعمل على صياغة مذهب اقتصادي يراعي الثقافة الاسلامية لبلدنا العزيز, ويأخذ بعين النظر الظروف والشروط الموضوعية التي تفرضها التطورات العالمية المعاصرة على كافة المستويات.
ولعل مما يجعل القيام بهذه العملية – فيما لو توفرت الإرادة السياسية لذلك – أكثر يسرا الجهود الكبيرة التي بذلها علماء الاسلام في هذا المجال على مر العصور, ولا سيما الجهود الاستثنائية المباركة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس سره ) والتي تكللت بإنجاز رؤية علمية ناضجة للمذهب الاقتصادي الإسلامي.
2 – الأمر الذي لا يقبل الانتظار والتباطؤ فيه هو العمل على جعل استثمار موارد الطبيعة الى اقصى حد ممكن وتنمية الثروة هدفا أساسيا ينبغي للمجتمع إنجازه في أسرع وقت ممكن, على أن يقترن بالعمل – أيضا – على تشريع مواد وقوانين دستورية تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة على وفق رؤية لا تتعارض مع مبادئ العدالة الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي ( مبدأ التوازن الاجتماعي ومبدأ التكافل العام ) التي أكّدت معطيات الفكر العالمي المعاصر – كما تبين من خلال البحث – فاعليتها في تحقيق العدالة الاجتماعية.
3 – دعم جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تعمل على نشر الوعي الديني والأخلاقي في المجتمع, وذلك لتفعيل ( مبدأ التحديد الذاتي ) الذي يضمن التزام أفراد المجتمع بمواد الدستور وقوانينه ( خاصة مواد وقوانين التوازن الاجتماعي والضمان الاجتماعي ) انطلاقا من الشعور بالمسؤولية الدينية والأخلاقية.
4 – على الدولة أنّ تحدّد السلوك الاجتماعي وتضبطه, بحيث يقوم هذا التحديد الموضوعي للحرية على المبدأ القائل : إنّه لا حرية للشخص فيما نصت عليه مواد الدستور من ألوان النشاط التي تتعارض مع المثل والغايات التي يؤمن الإسلام بضرورتها, كما نص على ذلك الدستور نفسه.
5 – العمل على بناء دولة قوية قادرة على إدارة الحياة الاقتصادية, دون التضحية بدور القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني, ولكن بشرط عدم إضعاف الدولة والإضرار بالحياة الاقتصادية المخطط لها من قبل الدولة.
إن بناء الدولة القوية يشكل اليوم أحد أهم قضايا المجتمع العالمي المعاصر، لأن الدول الضعيفة أو الفاشلة تبقي مصدر العديد من أكثر مشاكل العالم خطورة، من الفقر إلى المرض إلى المخدرات إلى الإرهاب.
إن الدعوة إلى بناء دولة قوية لا يعني ان يتسع مدى الدولة إلى حد يجعلها تتدخل في كل أبعاد الحياة الاجتماعية والاقتصادية, بل لا بد من تحرير بعض هذه الأبعاد من تسلط الدولة, ولكن لا بد من أن نكون – في الوقت ذاته – على درجة عالية من الوعي بالأبعاد الواجب تحريرها، وبعلاقة هذه الأبعاد المختلفة بعملية التطوير الاقتصادي. بمعنى آخر : إنّ تقليص مدى فعاليات أو نشاطات الدولة في الأبعاد المختلفة لصالح القطاع الخاص ينبغي أن يكون هدفا, ولكن في حدود أن لا يمس ذلك قدرة الدولة على تخطيط وتنفيذ سياساتها وفرض القوانين بإنصاف وشفافية.
المصادر
1 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, دار العارف للمطبوعات, بيروت – لبنان, ط1, 1433هـ – 2012م : ص15 – 16.
2 – المصدر السابق : ص20 – 21.
3 – المصدر السابق : ص22.
4 – المصدر السابق : ص25.
5 – الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق ارخاء الاقتصادي, فرانسيس فوكوياما, ترجمة معين الإمام ومجاب الإمام, منتدى العلاقات العربية والدولية في قطر, مطبعة كركي, بيروت لبنان, ط1, 2015م ص23 – 24.
6 – المصدر السابق : ص25.
7 – المصدر السابق : ص26.
8 – المصدر السابق : ص37 – 38.
9 – المصدر السابق : ص42 – 44.
10 – زوال العلمنة أطروحة معاكسة لحداثة ناصبت الدين العداء, بيتر برغر, ترجمة رامي طوقان, مجلة الاستغراب الصادرة عن المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية, العدد الثاني, 2016م, ص258.
11 – اقتصادنا, مصدر سابق : ص16.
12 – فلسفتنا, الإمام السيد محمد باقر الصدر, دار التعارف للمطبوعات, ط3,, بيروت – لبنان, 1430 هـ – 2009م : ص89.
13 – هذا سبيلنا إلى مجتمع عالمي ما بعد علماني, يورغن هابرماس, ترجمة طارق عسيلي, مراجعة ابراهيم الموسوي, مجلة الاستغراب الصادرة عن المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية, العدد الثامن, 2017م : ص15.
14 – دور الدين في الفضاء العمومي دراسة في تطور رؤية هابرماس الفلسفية, حسين غفاري, معصومة بهرام, ترجمة محمد حسن زراقط, مجلة الاستغراب الصادرة عن المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية, العدد الثامن, 2017م : ص91.
15 – الأديان العامة في العالم الحديث, خوسيه كازانوفا, ترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند, مراجعة الأب بولس وهبة, مركز دراسات الوحدة البشرية, مكتبة الفكر الجديد, ط1, بيروت – لبنان, 2005م : ص13.
16 – المصدر السابق : ص16 – 17.
17 – دور الدين في الفضاء العمومي دراسة في تطور رؤية هابرماس الفلسفية, مصدر سابق : ص87.
18 – الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس، ترجمة وتقديم: د. عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، 2001م، ص9-10.
19 – أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، لوك فيري بالتعاون مع كلود كلبلياي، ترجمة محمود بن جماعة, دار التنوير, مكتبة قريش, بيروت – لبنان, 2015م : ص122 – 125.
20 – الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس، مصدر سابق، ص34.
21 – الإنسان المؤله أو معنى الحياة، لوك فيري, ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، المغرب، 2002م، ص202.
22 – الإنسان الأدنى أمراض الدين وأعطال الحداثة، علي حرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر, دار الفارس للنشر والتوزيع, ط2, بيروت – لبنان، ص231-236.
23 – المصدر السابق، ص233.
24 – الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق ارخاء الاقتصادي, فرانسيس فوكوياما, مصدر سابق : ص585.
25 – المصدر السابق : ص538.
26 – في الحقيقة هناك العديد من الكتب في هذا المجال, منها كتاب الدكتور محمد عمارة ( الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء ) الذي سأكتفي بذكره هنا؛ لأنه قد تكفل بنقل عشرات النصوص لكوكبة من علماء الغرب تؤكد ما ذكرناه.
27 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر : ص423 – 424 وص431.
28 – زوال العلمنة أطروحة معاكسة لحداثة ناصبت الدين العداء, بيتر برغر, مصدر سابق : ص258.
29 – الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق ارخاء الاقتصادي, فرانسيس فوكوياما,, مصدر سابق : ص26.
30 – المصدر السابق : ص37.
31 – الثمن الباهظ للمادية, تيم كاسر, ترجمة طارق عسيلي, العتبة العباسية : المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية, سلسلة الدراسات الغربية, العدد السادس, 1438 هـ – 2017م : ص160.
32 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر : ص421.
33 – المصدر السابق : ص347.
34 – المصدر السابق : ص350.
35 – المصدر السابق : ص355 – 356.
36 – المصدر السابق : ص357.
37 – المصدر السابق : ص359.
38 – الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس، مصدر سابق : ص9-10.
39 – أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، لوك فيري, مصدر سابق, ص122 – 127. ولاحظ أيضا الإنسان المؤله أو معنى الحياة، لوك فيري, ص202 – 210.
40 – دور الدين في الفضاء العمومي دراسة في تطور رؤية هابرماس الفلسفية, مصدر سابق : ص87.
41 – علي حرب، الإنسان الأدنى، مصدر سابق، ص231-236.
42 – دور الدين في الفضاء العمومي دراسة في تطور رؤية هابرماس الفلسفية, مصدر سابق : ص87.
43 – علي حرب، الإنسان الأدنى، مصدر سابق، ص231-236.
44 – الثقة : الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق ارخاء الاقتصادي, فرانسيس فوكوياما, مصدر سابق : ص585.
45 – المصدر السابق : ص538.
46 – مدخل إلى مقاربة إسلامية حديثة للتوحيد “، عبد المجيد الشرفي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد : 61-62، 2015، ص59.
47 – الإنسان المستلب وآفاق تحرره، إيريك فروم، ترجمة وتعليق: د. حميد لشهب، تقديم: د. راينر فونك، فيديبرانت، الرباط، ص10-11.
48 – الإنسان المؤله أو معنى الحياة، لوك فيري, مصدر سابق : ص11 – 12.
49 – المصدر السابق، ص14-15.
50 – تعلُّم الحياة، لوك فيري، ترجمة د. سعيد الولي، مراجعة د. زهيدة درويش، أبو ظبي للثقافة والتراث : ص327.
51 –أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، لوك فيري مصدر سابق : ص65.
52 – جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، مصدر سابق، ص53.
53 – لاحظ الإنسان المؤله أو معنى الحياة, لوك فيري, مصدر سابق : ص36 – 36 و ص105 – 109. ولاحظ أيضا : أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، لوك فيري, مصدر سابق : ص68.
54 – الإنسان المؤله أو معنى الحياة, مصدر سابق : ص105 – 106.
55 – المصدر السابق : ص107 – 109.
56 – المصدر السابق : ص134.
57 – أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، لوك فيري, مصدر سابق : ص17.
58 – المصر السابق : ص35.
59 – الدين والظمأ الأنطولوجي، ، عبد الجبار الرفاعي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2016م، ص7.
60 – الإسلام يقود الحياة, السيد محمد باقر الصدر, ط1, مكتبة الكلمة الطيبة, بغداد – العراق, 1433 هـ – 2012م : 40 – 41.
61 – شمول الشريعة بحوث في مديات المرجعية القانونية بين العقل والوحي, حيدر حب الله, دار روافد, ط1, 1439هـ – 2018م, بيروت – لبنان : ص277
62 – المصدر السابق : ص278.
63 – المصدر السابق : ص279.
64 – مستقبلنا بعد البشري : عواقب ثورة التقنية الحيوية, فرانسيس فوكوياما, ترجمة إيهاب عبد الرحيم, مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية , ط1 : ص165 – 185.
65 – المصدر السابق : ص111- 132.
66 – المصدر السابق : ص97 – 109.
67 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر : ص332-333.
68 – عصر الفراغ الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة, جيل ليبوفتسكي’ ترجمة حافظ إدوخراز, مركز نماء للبحوث والدراسسات, ط1, بيروت – لبنان, 2018م : ص7,
69 – الثقة, الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي, فرانسيس فوكوياما,, مصدر سابق : ص522-526.
70 – المصدر السابق : ص527 – 529,
71 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر : ص233 – 235.
72 – الميزان في تفسير القرآن, العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي, دار الكتاب العربي, العراق – بغداد, 1430هـ – 2009م : ج4, ص96.
73 – جدلية الدين والأخلاق, مصطفى ملكيان, ترجمة أحمد القبانجي, الانتشار العربي, بيروت – لبنان, 2013م : 63.
74 – نظرة عامة على الفلسفة في ساعة و12 دقيقة “، جان فرانسوا دورتييه، من كتاب فلسفات عصرنا تياراتها, مذاهبها, أعلامها, وقضاياها, جان فرانسوا دورتييه، ترجمة ابراهيم صحراوي, الدار العربية للعلوم ناشرون, منشورات الاختلاف, ط1, الجزائر, 1430هـ – 2009م : ص56.
75 – الإنسان المؤله أو معنى الحياة, مصدر سابق : ص93.
76 – المصدر السابق : ص145.
77 – الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس، مصدر سابق : ص9.
78 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر : ص337 – 346.
79 – المصدر السابق : ص79.
80 – المصدر السابق : 444 – 445.
81 – الثقة, الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي, فرانسيس فوكوياما,, مصدر سابق : ص15 – 16 وص37.
82 – المصدر السابق : 31 – 33.
83 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص431 – 467.
84 – المصدر السابق : ص330 – 331.
85 – المصدر السابق : ص 782 – 786.
86 – النقاشات الأمريكية حول العدالة الاجتماعية, عن كتاب وايل كيمليكا : نظريات العدالة, نيقولا جورنيه, من كتاب فلسفات عصرنا تياراتها, مذاهبها, أعلامها, وقضاياها, جان فرانسوا دورتييه, مصدر سابق : ص200.
87 – المصدر السابق : 205 – 206.
88 – الحرية والمساواة عن كتاب جون راولس : نظرية العدالة, جاك لوكومت, من كتاب فلسفات عصرنا تياراتها, مذاهبها, أعلامها, وقضاياها, جان فرانسوا دورتييه, مصدر سابق : ص205 – 206.
89 – المصدر السابق : ص208.
90 – المصدر السابق : ص209 – 210.
91 – المصدر السابق : فلسفات عصرنا : ص205.
92 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص773.
93 – الحرية والمساواة عن كتاب جون راولس : نظرية العدالة, جاك لوكومت, مصدر سابق : ص210 – 211.
94 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص773.
95 – المصدر السابق : ص777.
96 – المصدر السابق : ص780.
97 – نظرية جون راولس في العدالة التوزيعية ونقادها, منير الكشو, مجلة ” تبيّن “, المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات, العدد 36, ربيع 2021 : ص59.
98 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : 386.
99 – نظرية جون راولس في العدالة التوزيعية ونقادها, منير الكشو, مصدر سابق : ص59 – 60.
100 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص485 و ص273 – 318.
101 – المصدر السابق : ص485 – 486.
102 – المصدر السابق : ص485 – 486.
103 – المصدر السابق : ص780.
104 – المصدر السابق : ص705 – 706.
105 – الحرية والمساواة عن كتاب جون راولس : نظرية العدالة, جاك لوكومت, مصدر سابق : ص210.
106 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص774 – 776.
107 – المصدر السابق : ص780 – 781.
108 – المصدر السابق : ص297 – 298.
109 – المصدر السابق : ص299 – 300.
110 – المصدر السابق : ص482.
111 – اللبرالية وحدود العدالة, مايكل ساندل, ترجمة محمد هناد, المنظمة العربية للترجمة, مركز دراسات الوحدة العربية, البصرة – العراق و بيروت – لبنان, 2009م : ص300 – 301.
112 – نظرية جون راولس في العدالة التوزيعية ونقادها, منير الكشو, مصدر سابق : ص59.
113 – اللبرالية وحدود العدالة, مايكل ساندل, ترجمة محمد هناد, مصدر سابق : ص145 – 146.
114 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص325.
115 – روح الأنوار, تزفيتان تودوروف, تعريب حافظ فويعة, دار محمد على تونس, بالاشتراك مع دار توبقال – المغرب العربي, ودار الانتشار العربي – لبنان, ودار الشروق الجزائر, ط1, 2007م : ص11 – 12.
116 – أجمل قصة في تاريخ الفلسفة, لوك فيري, بالتعاون مع كلود كبلياي, مصدر سابق : ص17.
117 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص326.
118 – الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس، مصدر سابق : ص13 – 17.
119 – المصدر السابق : ص13 – 20.
120 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص327 – 329.
121 – بناء الدولة, فرانسيس فوكوياما : النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين, ترجمة مجاب الإمام, مكتبة العبيكان, السعودية, 2007م : ص36 و ص43 – 47 وص50.
122 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : ص321.
123 – المصدر السابق : ص321–324.
124 – المصدر السابق : ص721.
125 – المصدر السابق : ص723.
126 – المصدر السابق : ص724.
127 – المصدر السابق : ص740.
128 – المصدر السابق : ص741 – 742.
129 – المصدر السابق : ص746.
130 – المصدر السابق : ص747.
131 – المصدر السابق : ص748.
132 – المصدر السابق : ص748.
133 – المصدر السابق : ص749 – 750.
134 – هل نسير إلى الهاوية, إدغار موران, ترجمة عبد الرحيم حزل, دار أفريقيا الشرق, المغرب, 2012م : ص 11.
135 – معنى القرن الحادي والعشرين, جيمس مارتن, ترجمة أحمد رمو, منشورات الهيئة العامة السوؤية للكتاب, وزارة الثقافة – دمشق, 2011م : ص16.
136 – اقتصادنا, سماحة آية الله العظمى الإمام السيد محمد باقر الصدر, مصدر سابق : 749 – 750.
137 – معنى القرن الحادي والعشرين, جيمس مارتن, مصدر سابق : ص28.
