مشكلةُ الثقافةِ بين الأصالةِ والثقافةِ المستوردة
العنوان: مشكلةُ الثقافةِ بين الأصالةِ والثقافةِ المستوردة
الكاتب/الكتّاب:
أ.م.د. بلاسم حسن حمادي الخفاجي - جامعة الإمام الصادق عليه السلام
-
-
-
الملخّص
((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))
“أقرأ” هي أولُ صلةٍ للعشق الإلهي بين العابِد والمعبود في غار حِرَاء، ابتدأت بأهمِ أساسٍ من أُسسِ الثقافة.. وجاءت مكرورة في نصها القرآني، فقال عزَّ من قائل ((اقرأ وربُّكَ الأكرمُ، الذي علَّم بالقلم))، لتدلَ على الإلزام والحركة والاستمرار والتأكيد على القراءة التي صنع النبيُّ صلى الله عليه واله بها نواةَ المجتمع الحضاري في رقعةٍ لا تَملِكُ أُسُسَ الحضارةِ، فحوَّل مجرى التاريخ، بلغةِ الضاد التي خُتِمَتْ بها لغةُ الرسالات والكتب السماوية، لغة “القرآن الكريم” المعجزة الخالدة.
واللغة محورٌ أساسٍ للثقافة، لأنها تعكس الموروثَ الاجتماعي للسلوكِ البشري الذي يساعد على تشكيل الثقافةِ من عناصرها المتعددة؛ كالدين، القيم والاتجاهات، التعليم، الجماليات، التنظيم الاجتماعي، وعناصر أخرى.
وثقافتنا العربية هي من أغنى الثقافات وأهمها فناً وأدباً وفكراً، فبعدما ترسخت جذورُها لغةً وخطباً وأمثالاً وشعراً قبل الإسلام، تنزل بها القرآنُ المجيد فزادها حِكَمَا وأغناها بلاغةً وبياناً، ففُتِحَت لها الآفاقُ انتشارا.
فثقافتنا رمزٌ وهويةٌ لمجتمعنا تنبعثُ من قيمه ومبادئه، ولا يمكن لها النمو والتقدم والازدهار إلا بالتأصيل والاستئصال، تأصيل المنهج واستئصال ما يطرأ عليه من شوائب عالقة نتيجة الاطلاع على ثقافة الآخر، وأصالة الثقافة لا تعني إهمال ثقافة الآخر وعدم الإفادة منها، بل تعني الوسطية بينهما بنحوٍ لا إفراط ولا تفريط.
وثقافتنا أصيلةٌ مُبدِعَةٌ نابعةٌ من النظر والتأمل في الكون غيرُ مستوردةٍ ولا هجينة..، لكن أصابها فيما مضى حقدٌ مغولي وآخرٌ تركي أثَّرَ في نتاجها..، وهي الآن تصارعُها ثقافةُ العولمةِ لغةً وفناً وفكراً، لتُصيبَ موروثَها الاجتماعي وتُرديه قتيلاً وتُلْبِسَ السلوك البشري ثوباً غيرَ ثوبه..، فكُتِبَ على ثقافتِنا ولغتِنا أن تصمُدَ وتقاومَ الإقصاءَ والتشويه، كما أن الأُمة مطالبة بالحفاظَ على هويتِها وعزَّتِها وفخرِها.
من هنا نرى جهوداً مثمرةً قد بُذِلَتْ من قِبَلِ مراجع الأمة وعلمائها ومثقفيها في إرساء دعائم المجتمع، وكان لشهيد الأمة ومرجعِها الإمام السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) أثراً واضحاً في ثقافتنا الرسالية؛ فقهاً، وفلسفةً، واقتصاداً.. و(كان من أعز أمنياته أن يرفد هذه الأمة بدراسةٍ مفصلةٍ حولَ بناءِ الشؤونِ الحياتية للمجتمع بعنوان “مجتمعنا” ليُكمِلَ مؤلفاته القيمة بعد كتابيه “فلسفتُنا” و”اقتصادُنا”) لكن اغتاله الزمنُ الردي (ولم يتيسر له أن يكتب هذه الدراسة المفصلة بشكل مستقل، لكنه نثر كثيراً من أفكارها ومفاهيمها في كتبه ودراساته المتنوعة في الحقول المعرفية التي طرقها) وستكون لنا خيرُ مرجعٍ في موضوعِ بحثِنا الموسوم بـ (مشكلةُ الثقافةِ بين الأصالةِ والثقافةِ المستوردة) .
الكلمات المفتاحية: مشكلة,الثقافة,الأصالة,المستوردة
Abstract:
((Read the name of your Lord who created))
“Read” is the first connection of divine love between the worshiper and the idol in the cave of Hira. It began with the most important foundation of culture, He, the Exalted, said: ((Read, and your Lord is the Most Generous, He who taught by the pen)) , To denote obligation, movement, continuity, and emphasis on the reading with which the Prophet, may God’s prayers and peace be upon him, made the nucleus of civilized society in an area that did not have the foundations of civilization, so he transformed the course of history, with the language of adversity that sealed the language of the heavenly messages and books, the language of the “Holy Qur’an”, the eternal miracle.
Language is an essential axis of culture, because it reflects the social heritage of human behavior that helps shape culture from its multiple elements. Such as religion, values and trends, education, aesthetics, social organization, and other elements. And our Arab culture is one of the richest cultures and the most important of them is art, literature and thought. After its roots were established in language, speeches, proverbs and poetry before Islam, the glorious Qur’an was revealed in it, and it increased its wisdom and enriched it with eloquence and statement, so horizons were opened for it to spread.
Our culture is a symbol and an identity for our society emanating from its values and principles, and it cannot grow, progress and flourish except by rooting and eradicating, rooting the method and eradicating any impurities that arise in it as a result of familiarity with the culture of the other, and the authenticity of culture does not mean neglecting the culture of the other and not benefiting from it, but rather means moderation between them in a way No excess or negligence.
Our culture is original, creative, stemming from consideration and contemplation of the universe, neither imported nor hybrid.., but it was afflicted in the past by Mongol and Turkish hatred that affected its production.., and now it is grappling with the culture of globalization in language, art, and thought, to infect its social heritage and kill it, and wear a dress other than human behavior. .., Our culture and language must stand and resist exclusion and distortion, and the nation is required to preserve its identity, dignity and pride.
From here, we find fruitful efforts made by the nation’s references, scholars, and intellectuals in laying the foundations of society. The nation’s martyr and reference, the Imam, Sayyid Muhammad Baqir al-Sadr (may his secret be sanctified), had a clear impact on our missionary culture. jurisprudence, philosophy, and economics.
And (one of his dearest wishes was to provide this nation with a detailed study on building the life affairs of society under the title “Our Society” to complete his valuable books after his books “Our Philosophy” and “Our Economy”), but he was assassinated by the bad time (It was not possible for him to write this detailed study independently, but he scattered many of its ideas and concepts in his books and various studies in the fields of knowledge that he used) and it will be our best reference in the subject of our research, which is marked by (the problem of culture between originality and imported culture) The author consists of two sections, before which there is an introduction and after which there is a conclusion. Each section has two requirements:
The first topic: culture is a symbol and identity
The first requirement: its definition and importance
The second requirement: its elements, types, and sources
The second topic: culture is a challenge and survival
The first requirement: culture between the authenticity of the heritage
The second requirement: challenges and their solutions
Keywords: problem,culture,originality,imported
البحث الكامل
المقدمة
الثقافة هي مجموعة من السلوكيات التي تنتج عن كل أنواع المعرفة المكتسبة من خبرات وعلوم ومهارات وعقائد ولغة وتقاليد ترسخت في ذهن الإنسان، وما يترتب عليها من مفاهيم تظهر على سلوكه وأدائه، وتعتبر بمثابة هوية ذلك الشخص أو تلك الأمة وهو ما يميزها عن باقي المخلوقات أو الأمم، وقد زعم علماء الأنثروبولوجيا بأن الثقافة هي السلوك والأداء الراقي والرفيع المستوى.
وتعتبر ثقافتنا العربية من أغنى الثقافات وأهمها فناً وأدباً وفكراً، فبعدما ترسخت جذورُها لغةً وخطباً وأمثالاً وشعراً قبل الإسلام، تنزل بها القرآنُ المجيد فزادها حِكَمَا وأغناها بلاغةً وبياناً، ففُتِحَت لها الآفاقُ انتشارا.
وأصبحت رمزاً وهويةً لمجتمعنا تنبعثُ من قيمه ومبادئه، ولا يمكن لها النمو والتقدم والازدهار إلا بالتأصيل والاستئصال، تأصيل المنهج واستئصال ما يطرأ عليه من شوائب عالقة نتيجة الاطلاع على ثقافة الآخر.
وأصالة الثقافة لا تعني إهمال ثقافة الآخر وعدم الإفادة منها، بل تعني الوسطية بينهما بنحوٍ لا إفراط ولا تفريط..، وثقافتنا أصيلةٌ مُبدِعَةٌ نابعةٌ من النظر والتأمل في الكون غيرُ مستوردةٍ ولا هجينة..، لكن أصابها فيما مضى حقدٌ مغولي وآخرٌ تركي أثَّرَ في نتاجها..، وهي الآن تصارعُها ثقافةُ العولمةِ لغةً وفناً وفكراً، لتُصيبَ موروثَها الاجتماعي وتُرديه قتيلاً وتُلْبِسَ السلوك البشري ثوباً غيرَ ثوبه..، فكُتِبَ على ثقافتِنا ولغتِنا أن تصمُدَ وتقاومَ الإقصاءَ والتشويه، كما أن الأُمة مطالبة بالحفاظَ على هويتِها وعزَّتِها وفخرِها.
من هنا نجد جهوداً مثمرةً قد بُذِلَتْ من قِبَلِ مراجع الأمة وعلمائها ومثقفيها في إرساء دعائم المجتمع.. من خلال أفكارهم ومفاهيمهم التي أودعوها في كتبهم ودراساتهم المتنوعة في الحقول المعرفية والتي ستكون لنا خيرُ مرجعٍ في موضوعِ بحثِنا الموسوم بـ (مشكلةُ الثقافةِ بين الأصالةِ والثقافةِ المستوردة) والمؤلفُ من مبحثين قبلهما مقدمة وبعدهما خاتمة، ولكل مبحث مطلبان:
المبحث الأول: الثقافةٌ رمزٌ وهوية
المطلب الأول : تعريفها وأهميتها
المطلب الثاني: عناصرها ، أنواعها ، مصادرها
المبحث الثاني: الثقافةُ تَحدٍ وبقاء
المطلب الأول: الثقافة بين أصالةِ الموروثِ
المطلب الثاني: التحدياتُ وحلولُها
المبحث الأول: الثقافة رمز وهوية
الثقافة هي مجموعة من السلوكيات التي تنتج عن كل أنواع المعرفة المكتسبة من خبرات وعلوم ومهارات وعقائد ولغة وتقاليد ترسخت في ذهن الإنسان، وما يترتب عليها من مفاهيم تظهر على سلوكه وأدائه، وتعتبر بمثابة هوية ذلك الشخص أو تلك الأمة وهو ما يميزها عن باقي المخلوقات أو الأمم، وقد زعم علماء الأنثروبولوجيا بأن الثقافة هي السلوك والأداء الراقي والرفيع المستوى.
المطلب الأول: تعريفها وأهميتها
انطلاقاً مما ورد في المعاجم اللغوية لـمفردة “الثقافة” وجذرها “ثقف” بضم القاف وكسرها، نجد أن معناها يرد في؛ الحذق وتقويم المعوج من الأشياء، والتسوية، والتأديب والتهذيب..[1]، كما يرد معناها في التمكن من الشيء وسرعة التعلم، ففي تهذيب اللغة للأزهري (رجل ثقف لقف إذ كان ضابطاً لما يحويه قائماً به..، ويقال: ثقف الشيْ، وهو سرعة التعلم)[2]، وثقف أي صار حاذقاً مثل تعب تعباً أي صار حاذقاً فطناً، وهو غلام لقن ثقف أي صار ذو فطنة وذكاء، والمراد أنه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه[3].
واصطلاحاً يُعرِف المجمعُ اللغوي “الثقافة” بأنها جملة العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها[4].
ولكثرة تعريفاتها أصبح مفهوم الثقافة ذا دلالات حديثة يتجاوز المعاجمَ العربية القديمة فمنهم من عرَّفها؛ بأنها طريقة خاصة تميِّز أمة معينة عن أمم أخرى وتتمثل في العقائد والنظم، وكل ما هو اجتماعي وخُلقي، ومنهم من عرفها بأنها ذخيرة مشتركة من الأفكار والمشاعر لأمة تجمعت لها وانتقلت من جيل الى جيل تاريخ مشترك، وتغلب عليها بوجه عام عقيدة دينية مشتركة هي جزء من تلك الذخيرة المشتركة من الأفكار والمشاع، والعقيدة الدينية واللغة من العناصر الأساسية للثقافة[5]، ومن بين تعريفاتها الاصطلاحية هو الرقي في الأفكار النظرية، فيشمل الرقي في الفنون والسياسة والإحاطة بقضايا التاريخ المهمة والرقي في الأخلاق أو السلوك، وغير ذلك من الاتجاهات النظرية[6]، فأصبحت كلمة الثقافة في الاصطلاح العرفي في اللغة العربية وغيرها تفيد معنى ما يكتسبه الإنسان من دروب المعرفة النظرية، والخبرة العلمية التي تحدد طريقته في التفكير، ومواقفه في مختلف ظروف الحياة، ومن أي جهة حصلت تلك المعرفة وتلك الخبرة، سواء أكانت من البيئة والمحيط والمدرسة والمهنة أم من طرق أخرى غيرها[7].
من هنا تتضح أهمية الثقافة التي تنعكس على لغة المجتمع، واللغة في أي مجتمع مرآة للثقافة فهي الوسيلة التي تستخدمها الشعوب للتعبير عن العناصر المختلفة للثقافة؛ عاداتها وقوانينها وتقاليدها ومفاهيمها، فهناك تكامل –على درجة كبيرة من الأهمية- بين اللغة والثقافة، وكلاهما يكتسب بصورة اجتماعية، وتبرز تلك الأهمية بوضوح في مجال تعليم اللغات عامةً ولاسيما تعليم اللغة العربية خاصةً، لذلك كان لكل أمة ثقافتها التي تميزها عن غيرها من الأمم.
لذلك عرفها بعض المفكرين المسلمين بأنها التراث الحضاري والفكري في جميع جوانبه النظرية والعملية الذي تمتاز به الأمة وينسب إليها، ويتلقاه الفرد منذ ميلاده وحتى وفاته[8].
ولأننا مسلمون ينبغي أن (نقف عند المبدأ الإسلامي في فلسفته عن الحياة والكون، وفي فلسفته عن الاجتماع والاقتصاد، وفي تشريعاته ومناهجه؛ لنحصل على المفاهيم الكاملة للوعي الإسلامي، والفكر الإسلامي الشامل، مقارنين بينه وبين المبادئ الأخرى فيما يقرر من مناهج ويتبنى من عقيدة.. فمفاهيم كل مبدأ عن الحياة والكون تشكل البنية الأساسية لكيان ذلك المبدأ، والميزان الأول لامتحان المبادئ هو اختبار قواعدها الفكرية الأساسية التي يتوقف على مدى أحكامها وصحتها أحكام البنيات الفوقية ونجاحها..)[9].
وتأسيساً لذلك جعل السيد الشهيد الصدر كتابه الأول “فلسفتنا” لدراسة البنية التحتية القاعدية، لتمثل بداية المبدأ الذي هو عقيدة في الحياة ينبثق عنه نظام للحياة، فنقد المذاهب الاجتماعية؛ الرأسمالية والاشتراكية والماركسية، المتنازعة مع المذهب الاجتماعي الإسلامي ومن ثم قام بدراسة البنيات الفوقية في مؤلفاته الأخرى في كتابه الثاني “اقتصادنا” وغيره.
ويرى الشهيد الصدر إن النظام الرأسمالي الديمقراطي ليس منبثقاً من عقيدة معينة عن الحياة والكون، ولا مرتكزاً على فهم كامل لقيمها التي تتصل بالحياة الاجتماعية وتؤثر فيها.. وأما الاشتراكية والشيوعية الماركسيتان فقد وضعتا على قاعدة فكرية وهي الفلسفة المادية الجدلية..، لذلك لابد من دراسة فلسفتي الإسلام والماركسية لنتبين القاعدة الفكرية الصحيحة للحياة التي يجب أن نشيد عليها وعينا الاجتماعي والسياسي لقضية العالم كله، ومقياسنا الاجتماعي والسياسي الذي نقيس به قيم الأعمال، ونزن به أحداث الإنسانية في مشاكلها الفردية والدولية..[10].
لذلك كان المشروع الفكري للسيد الشهيد الصدر -آنذاك- يجابه التحدي الفكري للماركسية التي امتدت تأثيراته الى داخل البيئات الإسلامية التي اعتبرته خطراً متفاقماً على الأمة الإسلامية -آنذاك-، فشكَّلَ مشروع الصدر قدس سره الشريف أعمق مجابهة فكرية للأسس الفلسفية للماركسية والمادية الجدلية، التي لم تجابه بمناقشات فلسفية واعية فاهمة، ولم تُقرَع بردود علمية من قبل كُتاب العرب المتفلسفين مثلما جوبهت وقرعت بكتاب “فلسفتنا” للسيد الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه[11].
فما أحوجنا اليوم لدراسة فكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي حاول من خلال كتبه ومؤلفاته الحفاظ على هويتنا ورمزنا ببناء الإنسان المسلم القادر على مواجهة الأفكار والثقافات المستوردة، مدافعاً عن دينه وثقافته الإسلامية بعقلٍ منفتحٍ ودليلٍ منطقي..
فللثقافة دور كبير في بناء المجتمع بناءً صالحاً وواعياً وتنميته من خلال إحساس أفراده بالانتماء الى ذلك المجتمع، لغةً وتاريخاً وقيماً ومبادئً وعاداتٍ وتقاليد، وتساعدهم في تنظيم حياتهم وعلاقاتهم فيشعرون بالألفة والمحبة وتسودهم روح الطمأنينة والإحساس بالأمان.
المطلب الثاني: عناصرها – خصائصها – أنواعها – مصادرها
تتكون الثقافة من مجموعة عناصر رئيسة تختلف وتتغير من ثقافة لأخرى وتتطور بتطور المجتمع، فثقافة كل شعبٍ تنبثق عن مصادر وعناصر، وأهم هذه العناصر:
- اللغة: هي من أهم العناصر المكونة للثقافة، لأنها وعاء العلوم جميعاً وأداة الإفهام والتعبير العلمي والفني والمحكي العادي، ووسيلة التأثير في العقل والوجدان بآدابها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها، فهي الوسيلة التي نقلت “الثقافة” بين شعوب العالم وعكست قيم وطبيعة المجتمعات، وبعض الدول قد تمتلك أكثر من لغة أو عدة لهجات فمن المهم أن تُؤخَذ بعين الاعتبار، لأن عدم فهمها قد يؤدي الى مشاكل في التواصل، وهناك صلة بين قوية بين اللغة واكتساب الثقافة إذ يتم ترميز مفاهيم الثقافة ومصطلحاتها ودلالاتها في بُنية اللغة، لذلك نجد أن الأفراد الذين يتكلمون بأكثر من لغة يدركون أن كل ثقافة لها مفاهيم وقواعد وعواطف مرتبطة بها وغير مرتبطة بثقافات أخرى[12].
- التعليم: من أهم أهداف التربية والتعليم هو إحداث عملية تغيير المجتمع وتطويره من خلال نشر الأفكار والمهارات ونقل المواقف الى أفراده وتدريبهم في ميادين ومجالات معينة.
- الدين: لكل مجتمع دين سائد بين أغلب أفراده يساعد على توجيه وتفسير الكثير من سلوك الأفراد المعتقدين به، وكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها، سواء أكان هذا الدين سماوياً أو وضعياً، مثلما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب ولاسيما “الإسلام”، الذي له التأثير العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية، وشعائره التعبدية، وقيمه الأخلاقية، وأحكامه التشريعية، وآدابه العملية، ومفاهيمه النظرية، حتى أنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم.
- الأفكار: هي مجموعة المعارف والنتائج التي يتوصل لها العقل بعد التفكير والتمحيص الطويل للمعلومات التي تلقاها، والمؤدية الى تشكيل الثقافة الإنسانية والمساهمة في تباين المجتمعات بعضها عن بعض والحرص على الخصوصية المميزة لكل شعبٍ فيها[13].
- القيم والأعراف: أن المبادئ والقيم السائدة بين أفراد المجتمع تنشأ في الأغلب من أساس ديني، أما “الأعراف” فتدل على الموروث الاجتماعي للسلوك البشري الذي ساعد على تشكيل الثقافة، وهي مجموعة الأحكام والضوابط التي تعارف عليها مجتمع ما، فأصبحت بمثابة القانون يلتزمون بها التزاماً كاملاً، مما ساعدت على نشر الفضيلة والخير ومنعت من وقوع الجريمة والانحراف.
- العادات والتقاليد: وهي الاسلوب المتبع لدى أية أمةٍ أو شعبٍ في الحياة الاجتماعية وقوانينها.
- التنظيم الاجتماعي: لكل مجتمع أسلوب وطريقة في التعامل بين أفرده، تنتظم من خلاله شؤونهم الحياتية وعلاقاتهم الاجتماعية.
- الجماليات: وهي كل ما يتعلق بالجمال والذوق الرقيع داخل أي ثقافة؛ كالموسيقى، والفن، والدراما والفلكلور وغيرها من الأمور السائدة في المجتمع[14]، وهناك مكونات أخرى تدخل في تكوين الثقافة كالمأكل والمشرب والملبس المسكن وغيرها.
وهناك العديد من الخصائص المميزة لأية ثقافة منها ما يأتي[15]:
- الثقافة اجتماعية: تعد الثقافة ظاهرة اجتماعية، لأنها نتاج أي مجتمع ولا تتشكل كظاهرة فردية، أي أنها تحتاج الى وجود مجتمع كامل حتى يستطيع أي فرد تشكيل وتطوير ثقافته من خلال تفاعله الاجتماعي مع الأخرين ضمن المجتمع.
- الثقافة سلوك متعلم: لا تعد الثقافة إرثاً بيولوجياً يُورَثُ من الآباء كما أنها ليست أمراً يُكتسَب بالفطرة، لكنها موروث اجتماعي؛ أي يتم تعلم السلوكيات السائدة في المجتمع من خلال التفاعل والتواصل مع الأفراد الآخرين فيه.
- انتقال الثقافة: تنتقل الثقافة من جيل الى آخر من خلال انتقال الصفات الثقافية من الآباء الى أطفالهم، والذين بدورهم ينقلونها الى أطفالهم مستقبلاً.. وهكذا، ومن الجدير بالذكر أن انتقال الثقافة ليس المقصود به انتقالها بالوراثة عن طريق الجينات، وإنما من خلال التفاعل واللغة التي تعتبر أداة رئيسة في أية ثقافة.
وقد قسم علم الاجتماع “الثقافة” الى عدة أنواع[16]:
– الثقافة المادية: وتشمل الاحتياجات الحياتية للفرد مثل الطعام والشراب واللباس.
– الثقافة المعنوية: وتشمل التقاليد والعادات والمعتقدات والأفكار والديانات.
– الثقافة العامة: وهي السلوكيات المعرفية والثقافية والاجتماعية التي تميز المجتمع عن غيره من المجتمعات.
– الثقافة الفرعية: وهي السلوكيات المعرفية والثقافية والاجتماعية التي تميز طائفة أو
فئة داخل مجتمع ما عن الطوائف والفئات الأخرى داخل نفس المجتمع.
ويمكن تقسيم الثقافة أيضاً وفقاً لمجالات الحياة الى عدة أنواع:
- الثقافة الاجتماعية: وتشمل العادات والتقاليد والقيم التي تميز المجتمع عن غيره من المجتمعات.
- الثقافة السياسية: وتشمل أشكال الحياة السياسية كالنظام الانتخابي وقضايا الرأي العام وممارسات الأحزاب السياسية.
- الثقافة الاقتصادية: وتشمل المنتجات والسلع الرائجة في الأسواق وأشكال التعاملات المالية وأنواع العملات وسلوك شراء المستهلكين.
- الثقافة التاريخية: وتشمل المعالم الأثرية والأحداث والشخصيات التاريخية.
وتختلف مصادر الثقافة باختلاف أنواعها، ومن أهم هذه المصادر[17]:
- قراءة الكتب: الكتاب هو المصدر الأول والأساس للثقافة، لذا تعد القراءة من أكثر مصادر الثقافة انتشاراً عبر التاريخ، لأنها تثري المعرفة وتوسع المدارك، وتساعد في انتشار الثقافة بشكل كبير وخلال أزمنة مختلفة، حيث تتوافر المصادر والمراجع من كتب المعرفة في كل مكان فيسهل الحصول عليها من قبل القراء، وتشتمل هذه الكتب على العديد من المعلومات والحقائق والأفكار والمفاهيم، فيساعد بشكل كبير في تكوين فكر ثقافي واع لدى أفراد المجتمع.
- الشبكة العنكبوتية: في ظل الثورة التكنولوجية التي يمر بها العالم بأكمله يكون لهذه الشبكة دور في نشر الثقافة – إلا أنها وباقي الفضائيات تعتبر وسيلة اتصال وليست مصادر ثقافية – حيث أنها تضم العديد من المعلومات؛ المكتوبة والمصورة والمسموعة والمرئية والمستسقاة من مصادر ومراجع شتى، ولتناول رواد هذه الشبكة تلك المعلومات بشكل يومي، نجدها قد ساهمت في انتشار المعرفة والثقافة في كل أنحاء العالم بشكل كبير وسريع من خلال المواقع الإلكترونية والمنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، فزادت فرص التبادل الثقافي بين أفرد المجتمعات المختلفة.
- قنوات التلفاز: وهي من المصادر الهامة التي تنشر الثقافة بين الأفراد، من خلال المحتوى الذي يتم بثه على هذه القنوات والمحطات الفضائية، من برامج ومسلسلات الدراما أفلام ونشرات إخباريه، يكون لها دور كبير في تشكيل الوعي الثقافي بين أفراد المجتمع.
- الموسيقى: وهي من الوسائل التي يمكن استخدامها في نشر الثقافة، حيث أن كل بلد يختص بموسيقى تميزها عن غيرها وهي ما تجعل الإنسان يعبر عن فكر وثقافة مجتمعه.
- السفر: وهو من أقدم الوسائل وأصعبها في التعرف على ثقافات الشعوب المختلفة فيزيد من المعرفة الثقافية، وفرص الاطلاع على اللغات والعادات والتقاليد والمعتقدات.
المبحث الثاني: الثقافةُ تَحدٍ وبقاء
من شروط مصادر القوة في أي ثقافة أن تكون ذات مبادئ وقيم ترتكز عليها وخصائص تميزها، ذات منحى إنساني شمولي يسمو بالإنسانية الى السمو والرفعة، من خلال إرثها التاريخي الأصيل وتطلعاتها المستقبلية، اللَذَين يصنعان لها ثقافة واعية.. فـ (لا يمكن لنا أن نتصور تاريخاً بلا ثقافة، فالشعب الذي فقد ثقافته قد فقد حتماً تاريخه)[18].
المطلب الأول: الثقافة بين أصالة الموروث والمستورد
لكي نفهم الأصالة في فكرنا وثقافتنا، لا بد لنا من العودة الى أصولنا وثوابتنا الفكرية والعقدية والأخلاقية، التي وضع لبناتها المفكرون الأوائل وتناقلها أفراد الأمة جيلاً بعد جيل يخوضون من أجل سلامتها الصراع تلو الصراع مع الحضارات الأخرى، حتى أورثوها لنا أمانةً في أعناقنا لنحياها عِزاً وافتخاراً بسلوكياتنا العملية – لا بالتنظير العاطفي- ونوصلها الى الأجيال القادمة، ((إنا عرضنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وحَمَلَها الإنسانٌ إنَّهُ كان ظَلٌومًا جَهُولا))[19]، والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، إذ بدون إدراك الإنسان أنه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة، أو يُختار لممارسة دور الخلافة[20].
من هنا تتضح ضرورة معرفة ثقافتنا وفهمها من مصادرها الأصيلة ومناهجها القويمة بلغة سليمة؛ لغة القرآن وعلومه، لغة العلم والعلماء والأدباء والمثقفين، التي واكبت وأبرزت تراثنا برصانتها وجزالتها قروناً عديدة فلا يمكن أن تضعف وتكلَّ عن دورها السابق، لذا ينبغي أن نجعلها اليوم لغة الحياة والثقافة، ونسبر بها عمق تراثنا الحضاري ونستخرج جواهره الثمينة ونشذِّبه مما علق به من؛ إسرائيليات، وخرافات، وشطحات، وفلسفات، وحكايات أكل الدهر عليها وشرب.. وصوغه بلغة العصر المعبِّرة عن واقعنا ومشكلاته، ونعرض لعلم الكلام، والفلسفة، والفقه، والاجتماع، والأدب..، وباقي العلوم الأخرى بلغة مُيسَّرة، متوخّين الوسطية في طرحها والرد على ما أشكل من مَسائلها، من دون أن نضفي القدسية على كل ماضينا ولا أن ننبهر في كل ما يأتينا من ثقافة الغير، بل نتخيَّر بينهما وننتقي ما ينفع الناس انتفاعاً واعياً في تربيتهم وتثقيفهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة في هذه الحياة الدنيا، تجسيداً لقول رسول الله محمد صلى الله عليه واله: (خيرُ الناسِ مَنْ انتفعَ بهِ الناس..)[21].
والانتفاع لا يتم إلا من خلال معاصرة الواقع المعاش، تللك المعاصرة التي تحتم علينا معرفة العصر معرفة دقيقة هادفة، لأن المشكلة كلَّ المشكلة هي “الجهل بالعصر”، الذي أصاب دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة على حد سواء.
فتقوقع دعاة الأصالة في صومعة التراث وإغلاق أبوابها ونوافذها، عزلتهم عن معرفة واقعهم وما يدور حوله من متغيرات فاعلة في صناعة المجتمع، وبالتالي تعذر عليهم فهم الواقع وتقويمه ومن ثم تغييره.
فمعرفة الواقع لا تكتمل إلا بمعرفة العناصر الفاعلة والمؤثرة في صناعة المجتمع بكافة أنواعها وأشكالها وألوانها؛ المادية والمعنوية، وحركة التاريخ والمجتمع، والسياسة والاقتصاد، والمبادئ والأفكار..
لذا ينبغي بالإنسان أن يكون حاضراً وبقوةٍ في مجتمعه كي يستطيع التأثر والتأثير فيه، وهذا ما نستشفه من قوله تعالى (( وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسانِ قومِهِ ليبيِّن لهم..))[22]، فاللسان آلة القول واللغة والتعبير الكاشف عن طبيعة مشاكل العصر وحلولها.
لذا نجد تنوع وتغير رسالاتِ الرسل والأنبياء بحسب طبيعة العصر وتحدياته، وقد أشار السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره الشريف الى (فكرة التغيير والتجديد التي عاشتها ظاهرة النبوة في تاريخ الإنسان على مر الزمن، حتى وضع لها الحد النهائي، على يد الرسالة الإسلامية الخاتمة)[23]، وذكر من جملة أسباب هذا التغيير والتجديد (هو أن النبوة تستنفد أغراضها وتستوفي أهدافها، باعتبارها رسالة صممت لعلاج حالة طارئة وقد استنفدت أغراض العلاج)[24]، كالتركيز في المسيحية على فكرة “الرهبنة” بجعل النفس منقطعة عن علائق الدنيا، كعلاجٍ لمرضٍ عاشه بنو إسرائيل وهو الانغماس المطلق في الدنيا وفي علائق الدنيا، التي جعلت اليهودي مشدوداً الى درهمه وديناره ويومه وغده، فجاء هذا العلاج كوصفةٍ لانتشال الإنسان اليهودي من ضرورات يومه وغده لتذكره بأمسه وربه، لهذا كان في المسيحية هذا النوع من الإفراط المناسب مع حالة موضعية زمانية معينة في التاريخ الطويل للإنسان، أما هذا النوع من الإفراط حينما يؤخذ كخط عام للإنسان يعتبر شذوذاً وانحرافاً، لأنه دواء للمريض وليس طعاماً للصحيح فالنبوة هنا كانت رسالة صممت لعلاج حالة طارئة وقد استنفدت أغراض العلاج[25].
إذاً حالة التغييرِ والتجديد حالة طبيعية وصحية بلحاظ حركة الأنبياء والمرسلين، فما بالنا لا نستسيغها اليوم في حركة المثقفين في مجتمعهم المعاصر؟!
في الواقع إن الناس في هذا الأمر بين إفراطٍ وتفريط؛ فبعضٌ يخاف من مواجهة تحديات العصر فينكمش عن حركة المجتمع، وبعضٌ ينخرط في ملامح العصر الجديدة لحدِّ الإفراط والذوبان فينصهر فيها انصهاراً كبيراً متخذاً طابعه وهويته بعيداً عن كل الماضي وتراثه العتيد.
والحال أن خير الأمور أوساطها، والوسطية هي الانطلاق من الحاضر نحو المستقبل من غير اغفال الماضي، فتأخذ بما ينفع الناس وتترك ما يضرهم.
وقول البعض بأن (المدنية كلٌ لا يتجزأ فإن هي جاءت الى المجتمع جلبت معها محاسنها ومساوئها معاً، إن من المستحيل الفصل بين حسنات المدنية وسيئاتها، والإنسان مضطر حين يدخل باب المدنية أن يترك وراءه تلك الطمأنينة النفسية التي كانت تكتنفه في أيام مضت، لقد أدرك العراقيون هذه الحقيقة خلال الحرب العالمية الأولى حين فوجئوا بالمدنية الغربية تأتيهم بمخترعاتها ونظمها الفكرية والاجتماعية، وهم قد تركوا وراءهم إذ ذاك طمأنينة الماضي وانجرفوا في هذا الميدان الصاخب الذي نسميه بالمدنية)[26]، هذا القول ناجم من التأثر بالمدنية ونهضتها الصناعية التي كان لعلوم الغرب فيها دور متميز..
ويُردُّ على هذا الرأي بقول مالك بن نبي من أن العلم والثقافة مفهومان مختلفان إذ العلم غير الثقافة، فالعلم واحد والثقافات متنوعة ومتعددة وخاصة بكل قوم وجماعة، فلقد تبادل العرب والأعاجم فيما بينهم في العلوم والمعارف لكنهم حافظوا بالبقاء على ثقافاتهم لغة وعقيدة وعادات وأعراف، وكذا الأمر بالنسبة لغير العرب كالصينيين مثلاً أخذوا علومهم ومعارفهم عن الغرب لكنهم لم يأخذوا عنهم الشعائر والعقائد والتقاليد..
ويتضح الأمر جلياً من خلال الموازنة التي عقدها مالك بن نبي (بين الطبيب الإنجليزي أو الفرنسي وبين زميله المسلم- فيما يتعلق بجانب الفاعلية الاجتماعية- أن الفرق بينهما لا يمكن أن يعزى إلى منهج الدراسة أو إلى المؤسسة التعليمية، إذ هي واحدة بالنسبة لكليهما؛ فبقي إذن أن يعزى هذا الفرق في السلوك إلى أسباب أعم، تتضح أماراتها عندما نعقد موازنة أخرى، هي هذه المرة بين الطبيب الإنجليزي والراعي الإنجليزي، وستكون هذه الموازنة مفيدة لنا فائدة كاملة لأنها تتيح لنا أن ندرك فكرة “الثقافة” في أعم مظاهرها.
فطبيب وراع لا يمكن أن يلتقيا في المكونات الخاصة التي تمليها المهنة، ومع ذلك فإن هنالك تشابهاً عجيباً في سلوكهما الخاص، هذا التشابه من أخص الأمور وأهمها في تحديد ثقافة مجتمع معين، هو يحدد في الواقع أسلوب حياة ذلك المجتمع، كما يحدد سلوك أفراده ومدى ما بينهم من تبادل في هذين الجانبين.. والطبيب الإنجليزي والطبيب المسلم يختلف سلوكهما لأن جذورهما لا تغوص في الأرض نفسها، على الرغم من أن تكوينهما المهني يتم في إطار منهج فني واحد. فلكل ثقافة وجودها الخاص، الذي تزداد معه قدرتها على التمييز كلما تغير المستوى الاجتماعي لجانبي الموازنة، فلو أننا بدلاً من أن نعقد هذه الموازنة بين طبيبين عقدناها بين طبيب إنجليزي ورجل من عامة المسلمين، فسنجد أن فروق السلوك تزداد بصورة مذهلة، ومن السهل أن نلاحظ ذلك في إحدى دور السينما، لقد شاهدت في إحدى العواصم العربية رواية سينمائية مقتبسة عن إحدى روائع شكسبير (عطيل)، وتأثير هذه الرائعة في المسرح أو في السينما في أوروبا معلوم لنا، وخاصة لحظة وصولها إلى حل عقدتها عندما يقتل البطل صاحبته (ديدمونا) ثم ينتحر.
لقد تركزت المهارة الروائية كما تؤدي بالموقف إلى هذا الحل الذي ادخر له الكاتب الإنجليزي كل موارد عبقريته، ليثير في وجدان المتفرج أعظم قدر من الانفعال، لكن هذه العبقرية أوربية، وهذا المتفرج أيضاً أوربي، فشخصيتهما منطوية على العناصر الذاتية نفسها، لأن جذورها تمتد في أرض واحدة، أمدتهما باستعداد واحد لتقبل المؤثرات.
أما جذور المتفرج المسلم فإنها تمتد في أرض أخرى، فذاتيته واستعداده للتقبل والانفعال مختلفان، ولذلك فقد يحدث أن نراه يضحك حيث يؤدي الموقف بالمتفرج الأوربي إلى البكاء.
لست أعدُّ هذا ناشئاً عن نقص في الحساسية، وإلا فكيف لنا لو أننا خصصنا المتفرج الإنجليزي بمزيد من الإحساس بالألم، أن نفسر سلوكه أمام المشكلات الاستعمارية، أعني أمام المأساة التي اشتملت على أكبر قدر من الألم الإنساني خلال التاريخ؟)[27].
إذاً خلاصة رأي مالك بن نبي هو أن الثقافات متنوعة ومتعددة وخاصة بكل قوم وجماعة، فلكل ثقافة وجودها الخاص..، وأن الثقافة (ليست ظاهرة صادرة عن المدرسة، ولكنها ظاهرة ناجمة عن البيئة..، والمدرسة عامل مساعد من عوامل الثقافة، ولكننا نخطئ في تقدير وظيفتها عندما نعتقد أن في إمكانها أن تحل مشكلة الثقافة وحدها، وهي لا يمكنها أن تقوم بدور العامل المساعد إلا في الحدود التي تندمج فيها وظيفتها ضمن الخطوط الكبرى لمشروع ثقافة)[28].
ويرى أن الإطار العام لحياة المجتمع هو ذلك الإطار الذي (يجمع بين راعي الغنم والعالِم بحيث توحد بينهما دواعٍ مشتركة وهي تهتم في معناها الخاص بكل طبقة من طبقات المجتمع فيما يناسبها من وظيفة تقوم بها، وما لهذه الوظيفة من شروط خاصة، وعلى ذلك فإن الثقافة تتدخل في شؤون الفرد، وفي بناء المجتمع، وتعالج مشكلة القيادة فيه، كما تعالج مشكلة الجماهير..)[29].
وقد بيَّنَ السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره الشريف تدخل الثقافة في شؤون الفرد والمجتمع وقيادته فضلاً عن معالجتها لمشاكل الجماهير..، من خلال قوله تعالى ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسِدُ فيها ويُسفِكُ الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس للك قال إني أعلم ما لا تعلمون))[30]، مستخلِصاً من هذا النص القرآني الشريف، بأن المجتمع يتكون من ثلاثة عناصر[31]:
- الإنسان.
- الأرض أو الطبيعة على وجه عام.. “إني جاعل في الأرض خليفة”.
- العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض وبالطبيعة من ناحية، وتربط من ناحية أخرى الإنسان بأخيه الإنسان، وهذه العلاقة يسميها القرآن الكريم “الاستخلاف”.
والعنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع والذي قد تتفق أو تختلف طريقة بناء المجتمع فيه بين مجتمع وآخر، لأن هذه العلاقة التي هي العنصر الثالث لها صيغتان أساسيتان؛ إحداهما صيغة ثلاثية، والأخرى صيغة رباعية تفترض طرفاً وبعداً رابعاً للعلاقة الاجتماعية ليس داخلاً في إطار المجتمع بل هو خارج عن هذا الإطار.
و”الاستخلاف“؛ يفترض وجود “المستخلِف” وهو الله سبحانه وتعالى، و”المستخلَف” وهو الإنسان وأخوه الإنسان أي الإنسانية ككل أو الجماعة البشرية، و”المستخلَف عليه” وهو الأرض وما عليها ومن عليها.. وتعتبر وجود “المستخلِف” مقوِّماً من المقومات الأساسية للعلاقة الاجتماعية بالرغم من أنه خارج إطار المجتمع، وهذه الصيغة ترتبط بوجهة نظر معينة نحو الحياة والكون وتُحدِثُ تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية، إذ تعتبر “الاستخلاف” والعلاقة الاجتماعية سُنة من سنن التاريخ.
ثم يبيِّن الشهيد الصدر دور الإنسان في الحركة التاريخية[32] قائلاً: أن الإنسان أو المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ –السببية والغائية-، فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع هي علاقة تبعية وعلاقة سبب بسبب، فالآية الكريمة من قوله تعالى ((إن الله لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتى يغيِّرُوا ما بأنفسهم))[33] واضحة جداً من أن المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة والأساس للبناء العلوي وللحركة التاريخية، فهي تتحدث عن تغييرين؛ أحدهما تغيير أوضاع شؤون القوم وظواهرهم والأبنية العلوية لهم – تغيير ما بأنفس القوم كقومٍ وكأمةٍ -، والتغيير التابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم النوعية والتاريخية والاجتماعية، فالمحتوى النفسي والداخلي للأمة كأمة (لا لهذا الفرد أو ذاك) هو الذي يعتبر أساساً وقاعدة للتغيرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.
ثم يقرر الشهيد الصدر بأن المحور الأساس الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل الغايات التي تحرك التاريخ وتعود إليه كل الأهداف، فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً تكون الغايات صالحة وممتدة والعكس صحيح.
ويتجسد المثل الأعلى من خلال رؤية فكرية وطاقة روحية تزحف بالإنسان في طريقه، ففي ثقافتنا العربية والإسلامية مثلنا الأعلى هو الله سبحانه وتعالى قبال الثقافات الأخرى التي تتخذ مثلها الأعلى من الفلسفات التي تؤمن بها.. ((أريتَ مَنِ اتَّخَذَ إلههُ هواه..))[34].
فهذا هو الثابت من تراثنا الفكري وثقافتنا العربية والإسلامية وباقي الثقافات متنوعة ومتعددة وخاصة بكل قوم وجماعة، ولكل ثقافة وجودها الخاص وإيمانها وفلسفتها الخاصة..
المطلب الثاني: التحدياتُ وحلولُها
مرت أمتنا العربية والإسلامية بعدة مراحل من التحدي والخراب والدمار من قبل الغرب والشرق استهدافاً لوجودها وثقافتها، بدءاً من الحروب الصليبية الى العولمة، ففي القرن الخامس الهجري تعرضت بلاد الشام ومصر الى الغزو العسكري من قبل الغرب الذي شنَّ حروبه الصليبية الشرسة على الإسلام والمسلمين، وفي القرن السابع الهجري تعرض العراق والشام من الشرق الى هجوم التتر والمغول الذين أسقطوا الخلافة العباسية وقتلوا العلماء وسلبوا العباد وأحرقوا المكتبات، وفي القرن الثالث عشر للهجرة تعرضت هذه الأمة الى هجمة عسكرية كبرى من قبل الاستعمار الأوربي الذي استنزف خيراتها وأضعف قدرتها وطاقاتها، وحاول مسخ ثقافتها وتشويه إسلامها من خلال حركة الاستشراق التي كان من أهم نتاجها “دائرة المعارف الإسلامية” التي صدرت في عدة طبعات وترجمت الى عدة لغات؛ كالإنجليزية والفرنسية والألمانية، وقد مُلِئَت كتابات المستشرقين بالتعصب الصليبي باعتراف كثير من المستشرقين، يقول برنارد لويس (لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات العديد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية)[35].
وفي العصر الحديث تتعرض أمتنا العربية والإسلامية الى التغريب والعولمة الثقافية بفرض الثقافة الغربية وقيمها وتغريب المجتمعات عن طريق استغلال التفوق التقني والسياسي والاقتصادي والعسكري لاختراق الثقافات الأخرى ومصادرة ثقافات الشعوب وفرض الأنماط الغربية عبر المنظمات والمؤتمرات الدولية مثل؛ مؤتمر نيروبي عام 1958م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، مؤتمر بكين عام 1995م، مؤتمر إسطنبول عام 1996م، مؤتمر نيويورك عام 1999م، ومؤتمر نيويورك أيضاً عام2000م، ومحور هذه المؤتمرات التي هي برعاية الجمعية العامة للأمم المتحدة يدور حول الأسرة والمرأة والطفل مركِّزاً على الحقوق الجنسية وحق الإنجاب والإجهاض وحق الشذوذ الذي يبيح الزنى واللواط ويمنع تعدد الزوجات..، مثلما يُعمَل الآن على تطبيق بنود “اتفاقية سيداو” التي اعتمدت في عام 1979م والمخالفة لأحكام الشرائع السماوية، وتُعتَبر هذه المؤتمرات من أخطر وسائل العولمة خطورة، لأنها تتمخض عنها قرارات لها صلاحية التنفيذ في الدول الأعضاء وغالباً ما يكون تنفيذها في بلاد العرب والمسلمين.
فالعولمة هي (عملية محاولة توحيد الفكر، وتنميط السلوك، وقولبة الأنظمة الحاكمة لحركة حياة البشر في شتى المجالات؛ الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، بالعمل المقصود شبه المخطط لتسيد مفاهيم ومدركات وقيم ومبادئ وسلع وخدمات، وتعميمها على العالم بأسره.. أو قل إن شئت نمذجة العالم فكرياً وسلوكياً ومادياً، بحيث تتلاشى عملاً ثوابت ومتغيرات الخصوصية الحضارية، وتختفي فعلاً الهوية والأيديولوجية)[36].
إن النموذج الذي يراد فرضه على العالم في إطار عملية العولمة إنما هو النموذج الغربي عامة، والأمريكي خاصة والذي يعتبر كاجتياح غربي – أمريكي لصب العالم في قالب النزعة المركزية الغربية..، وقد أخذ الجانب الاقتصادي من العولمة حظاً متميزاً ونصيباً وافراً من تلك الأنشطة البحثية والنقاشية، مما صرف الأضواء بعض الشيء عن الجانب الثقافي من العولمة أو “العولمة الثقافية” مع أنه أخطرها وأشدها حساسية.
إن التحديات التي تواجه ثقافتنا ترمي الى تشويه شريعتنا وعقيدتنا الإسلامية وإقصاء الإسلام عن قيادة الحياة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإضعاف عملية التربية والتعليم وإضعاف لغتهم العربية الفصحى بإشاعة اللهجات المحلية وإعلاء اللغات الأجنبية نطقاً وكتابة.. مما يؤدي الى هزيمة نفسية لبعض المسلمين الذين تهتز ثوابتهم، فتنشئ طبقة من المثقفين المستغربين المنبهرين بالغرب وثقافته.
وقد استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة في هذه الحرب الناعمة كالفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي عن طريق الشبكة العنكبوتية، فالغرب حريص على أن يكسبَ اليوم ما عجز عن كسبه بالأمس، من خلال العولمة الثقافية مستغلاً في هذا كافة ما وصل إليه العلم الحديث، وما أنتجته الحضارة المادية الغربية، رغبةً في القضاء على الإسلام.
ففي عام 1952م قال أحد المسؤولين الفرنسيين من وزارة الخارجية، بأن الخطر الحقيقي الذي يهددهم تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي -وليست الشيوعية– لأن المسلمين يملكون تراثاً روحياً خاص ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون الحاجة الى الاستغراب..، فالعولمة الثقافية محاولة غربية للقضاء على الهوية الإسلامية وقتل الذاتية الإسلامية للعالم الإسلامي رغبة في السيطرة عليه، وتنفيساً عن أحقاد وضغائن لم تطفئها الأيام ((ولا يزالون يُقاتلونكم حتى يَردوكم عن دينكم إن استطاعوا))[37]
إن مضمون العولمة الثقافية لا يتصادم فقط مع الثقافة الإسلامية ومبادئ الإسلام، بل إنه مضمون يتصادم مع الفطرة السليمة، وتمجه النفس القويمة والطباع المستقيمة ولا تسيغه إلا العقول السقيمة والنفوس اللئيمة..، فهي تعمل جاهدةً على تحطيم كل القيم الدينية والحواجز الأخلاقية..، ولو استقرأنا التاريخ وتأملنا قيام الحضارات وزوالها، لوجدنا أن العامل الأساس في سقوطها هو تغيير مزاجها النفسي تغيراً نشأ عنه انحطاط أخلاقها، وليست بفعل انحطاط ذكائها.
فثقافة العولمة تحمل في عروقها وجوهرها قبائح ورزايا المجتمعات الغربية – الأمريكية التي تتعارض تماماً مع الإسلام وطبيعته، ولا تتماشى مع طبيعة المجتمعات الإسلامية، فهي تتبنى عزل الدين عن حركة الحياة وتقصره على العلاقة الروحية بين العبد وربه، وتتبنى تيارت الإلحاد والمادية، وتيارات الإباحية والفوضى الأخلاقية.
وإذا كانت العولمة بشكل عام واقعاً لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فإن هذا لا يعني ضرورة الخضوع له، والتسليم والقبول به، وحتمية ركوب قطاره الذي لا يستطيع أحد أن يوقفه في كيفية اتخاذ الموقف المناسب والمدروس من العولمة، وعلى أساسه نحسن التعامل معها بما يجنبنا أضرارها، ويحمينا من بلائها.
لذلك:
- ينبغي أن يتبنى التأكيد على مبدأ عالمية الرسالة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه واله، والتي أرادها الله تعالى أن تكون خاتمة لرسالات الأنبياء والمرسلين ((وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين))[38]، فهي عامة لكل البشر وليست لشعب دون شعب، وحضارة الإسلام مؤسسة على تعاليم شريعته ومنطلقة من مبادئه، وقد امتدت قروناً طويلة باسطة ظلالها على شعوب مختلفة وأجناس عديدة وقوميات متباينة، فما قصرت يوماً عن الوفاء بحاجات من آوى إليها، ونعم بظلالها من بني البشر، وما عجزت يوماً عن استيعاب مشكلات الإنسانية وإيجاد الحلول الصائبة لها، فكانت أمان كل خائف، ودواء كل سقيم، وشفاء كل عليل، والتاريخ شاهد عادل على ذلك ولهذا فهي جديرة بالعالمية.
وبالمقابل فأن الحضارة الغربية المادية لم تسعد بني الإنسان ولم تفلح في علاج مشكلات المجتمعات الإنسانية، بل خلَّفت كثيراً من المشكلات والحوادث المأساوية، والتاريخ شاهد عادل على ذلك أيضاً.
- عقد مؤتمرات إسلامية للنظر في مواجهة العولمة الثقافية، بصفة منتظمة تشمل علماء ومؤسسات من شتى أقطار العالم الإسلامي، يشارك فيها ممثلون عن دوائر الحكم وصناع القرار السياسي والقائمون على أمر الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والاقتصاد وعلماء النفس والاجتماع..، تتمخض عن خطط محكمة ورؤى واضحة وبنود محددة يعرف من خلالها كل قطاع من قطاعات المجتمع دوره وواجبه، فتعرف الحكومات مسؤولياتها والأسرة واجباتها وكل فرد مهمته ودوره لينهض الجميع بتكليفاتهم ويؤدوا ما هو المطلوب منهم في درء هذا الخطر الماحق.
إن رفض أمتنا لمضامين العولمة الثقافية ليس بدعاً، ولم تخرج عن مبادئ التحضر أو تتردى الى التخلف والرجعية مثلما يشنع أنصار الفكر الغربي والمتشيعين لثقافة العولمة، لأن لنا ذاتيتنا وهويتنا الإسلامية، ومرجعيتنا الشرعية الدينية، التي من البداهة أن نتحاكم إليها وأن نلتزم بمبادئها، ونتصرف ونبني مواقفنا وفق ما تمليه علينا وتوجهنا إليه هذه المرجعية، وإلا كيف نكون مسلمين إذاً؟
فهل يرضى مجتمعٌ من المجتمعات غير الإسلامية بأن تزاحم ثقافةٌ أجنبية ثقافته المحلية وتتصادم تقاليد غيره مع تقاليده المرعية؟
كلا.. بل إن كل المجتمعات لتحرص على المحافظة على خصوصياتها الثقافية، وتقاليدها ومعتقداتها القومية[39].
إذاً:
- ما هي العلاقة بين تراثنا القديم والثقافة المستوردة؟ هل هي علاقة تضاد وتناقض؟ والمتناقضان لا يجتمعان!
- هل هي علاقة تنوع وتكامل؟ فيمكن الجمع بينهما، والجمع أكمل..
- كيف نوازن بين تراثنا الأصيل والمعاصر الدخيل؟
ربما يجيب البعض بأنهما متناقضان فيختار أصالة التراث ويعيش الغربة عن العالم وزمانه..، وربما يختار الآخر العصر والحداثة فيعيش الغربة عن الأهل والمكان..، وربما يتردد ثالث بينهما.
ففي المجتمع تياران متفقان يجتمعان على نبذ الجهل والتخلف، لكنهما يفترقان في الأسلوب بين “الأصالة – والثقافة المستوردة” وكأنهما على طرفي نقيض..
فهناك من اتَّكأ على القانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون (في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده)[40]، فاستسلم الى تقليد الغرب جملة وتفصيلا..، وهناك من تجمَّد على الموروث القديم وكأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. وضاعت الوسطية بينهما حتى (نسينا القديم ولم نتعلم الجديد)[41].
إن ثنائية التكامل بينهما أفضل من ثنائية التناقض والتضاد لأنه (لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث)[42].
فنحن نستطيع أن نقدِّر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي وأهميته الحضارية، ونأخذ منه ما نحتاجه اليوم ونقتبس من الثقافة المعاصرة ما تحتاج إليه ثقافتنا في مواكبة الثقافات الأخرى ولاسيما في مجال العلوم والتقنيات المستحدثة، فالمواءمة بين الموروث والمعاصر يحفظ للأمة هويتها ويشحذ طاقاتها على النماء والتطور والتجديد، فلا تعارض بين الأصالة الحقة والمعاصرة الحقة إذا فهمت كل واحدة منهما على حقيقتها، وعندها نستطيع أن نكون معاصرين وأصلاء في آنٍ واحد، وإنما يتعارضان إذا فهمت الأصالة بأنها جمود على الماضي وفهمت المعاصرة بأنها الدوران في رحى الغرب.
ومن الجدير بالذكر إن الثقافة في الكثير من مكوناتها تكمن بين الثابت والمتحوّل وهي نتاج بشري يتطور ويتجدد بجهود البشر، وفي مجتمعنا تستند الثقافة الى إرث كبير يغنيها في مجالات عديدة لكنها بحاجة الى قراءة مستبصرة واعية تسهم في نهضة الأمة وازدهارها، بعيداً عن القراءات المتحيزة لبعض الاتجاهات التي تأخذ من التراث وتدع وتحذف منه وتبقي تبعاً لإطارها المرجعي وأهوائها وميولها الخاصة، فهذه القراءات للفعل والتأثير وليست قراءات للفهم[43].
الخاتمة
- ثقافتنا هي من أغنى الثقافات وأهمها فناً وأدباً وفكراً ، تنبعثُ من قيمه ومبادئه، أصيلةٌ مُبدِعَةٌ نابعةٌ من النظر والتأمل في الكون غيرُ مستوردةٍ ولا هجينة..، وهي رمز وهوية المجتمع. واللغة محورٌ أساسٍ فيها، لأنها تعكس الموروثَ وهي من أهم العناصر المكونة لها.
- ثقافتنا الآن تصارعُها ثقافةُ العولمةِ لغةً وفناً وفكراً، والنموذج الذي يراد فرضه على العالم في إطار عملية العولمة هو النموذج الغربي عامة، والأمريكي خاصة لصب العالم في قالب النزعة المركزية الغربية..، والحضارة الغربية المادية لم تسعد بني الإنسان ولم تفلح في علاج مشكلات المجتمعات الإنسانية، بل خلَّفت كثيراً من المشكلات والحوادث المأساوية.
- إن التحديات التي تجابه ثقافتنا ترمي الى تشويه شريعتنا وعقيدتنا الإسلامية وإقصاء الإسلام عن قيادة الحياة.
- ولا يمكن لثقافتنا النمو والتقدم والازدهار إلا بالتأصيل والاستئصال، والأصالة لا تعني إهمال ثقافة الآخر وعدم الإفادة منها، بل تعني الوسطية بينهما بنحوٍ لا إفراط ولا تفريط.
- فالأُمة مطالبة الآن بالحفاظَ على هويتِها وعزَّتِها وفخرِها، من خلال الحفاظ على إرثها الحضاري ولغتها لأنها مرآة للثقافة، والتأكيد على مبدأ عالمية الرسالة الإسلامية بعقد المؤتمرات الإسلامية للنظر في مواجهة العولمة الثقافية بصفة منتظمة، يشارك فيها ممثلون عن دوائر الحكم وصناع القرار السياسي، لتتمخض عن خطط محكمة ورؤى واضحة وبنود محددة يعرف من خلالها كل قطاع من قطاعات المجتمع دوره وواجبه.
[1] ينظر: أساس البلاغة للزمخشري ص84 / المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية 1/98
[2] تهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، ج9 ،ص81
[3] لسان العرب، ابن منظور ج3 ص 29.
[4] ينظر: دراسات في الثقافة الإسلامية، د. رجب سعيد شهوان وآخرون ص 8/ المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية 1/98
[5] ينظر: الثقافة العربية إسلامية أصولها وانتمائها، أنور الجندي، ص 22م/ كتاب معلمة الإسلام، أنور الجندي، ص 524 وما بعدها.
[6] ينظر: أضواء على الثقافة الإسلامية، نادية شريف العمري، ص 9.
[7] ينظر: الأصول الفكرية للثقافة الإسلامية، محمود الخالد، ج1 ص42-43.
[8] ينظر: دراسات في الثقافة الإسلامية، د. رجب سعيد شهوان وآخرون، ص 8
[9] فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص 46
[10] ينظر: فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص 46
[11] ينظر: محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة، أحمد أبو زيد العاملي، ج1 ص 344.
[12] Cultural Awareness .nccc.georgetown.edu, Reteieved 6-3-2020. Edited
[13] ينظر: الثقافة العربية والثقافات الأخرى، عبد العزيز التويجري، ص 15-17
[14] The Cultural Environment, WWW.fao.org, Retrieved 6-3-2020. Edited
[15] “Culture, Meaning, Characteristics, Elements, Cultural Lag” patnawomensscollege.in, Retrieved 6-3-2020. Page 4-8 Edited.
[16] Hitesh Bhasin(21/6/2020), “What is Culture? Types and Characteristics”, marketing91, Retrieved 14/4/2022. Edited
[17] Engaging Communities”, engagingcommunities, Retrieved 14/4/2022. Edited.
[18] شروط النهضة، مالك بن نبي، ص 85
[19] القرآن الكريم، سورة الأحزاب:72
[20]ينظر: خلافة الإنسان، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ص 18
[21] مستدرك وسائل الشيعة، المحدث النوري، ج 12 ص77
[22] القرآن الكريم، سورة إبراهيم، آية 4.
[23] أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 32
[24] م. ن، ص 36
[25] ينظر: أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ص 35-36 بتصرف.
[26] مهزلة العقل البشري، علي الوردي، ص26
[27] مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، ص50- 53
[28] القضايا الكبرى، مالك بن نبي، ص77 وص81
[29] شروط النهضة، مالك بن نبي، ص86
[30] القرآن الكريم، سورة البقرة، آية 30
[31] ينظر: المدرسة القرآنية، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ص 105 وما بعدها.
[32] ينظر: المدرسة القرآنية، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ص 113 – 120 بتصرف.
[33] القرآن الكريم، سورة الرعد، آية 11.
[34] القرآن الكريم، سورة الفرقان، آية 43.
[35] العرب والتاريخ، برنارد لويس، ص 63
[36] العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها د. إسماعيل علي محمد، ص 8
[37] القرآن الكريم، سورة البقرة، آية 217.
[38] القرآن الكريم، سورة الأنبياء، آية 107.
[39] ينظر: العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها د. إسماعيل علي محمد، ص 9-54 بتصرف.
[40] تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، ج1 ص 184
[41] القديم والحديث، محمد كرد علي، ص 3
[42] عطر السماء، عبد المعطي الدالاتي، ص 33
[43] ينظر: نظرية التراث، الدكتور فهمي جدعان، ص 28
المصادر
بعد القرآن الكريم.
أ:
- أساس البلاغة، محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1998م.
- الأصول الفكرية للثقافة الإسلامية، محمود الخالد، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1983م.
- أضواء على الثقافة الإسلامية، نادية شريف العمري، مؤسسة الِّرسالة، ط9، 2001م.
- أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، دار الهدى، قم- إيران، ط2، 2006م
ت:
- تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، دار الفكر، بيروت، ط1، 1981م.
- تهذيب اللغة ، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور ، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1 ،2001م
ث:
- الثقافة العربية إسلامية أصولها وانتمائها، أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1982م.
- الثقافة العربية والثقافات الأخرى، عبد العزيز التويجري، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، المغرب، ط2، 2015م.
خ:
- خلافة الإنسان، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، 2011م.
د:
- دراسات في الثقافة الإسلامية، د. رجب سعيد شهوان وآخرون مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1981م.
ش:
- شروط النهضة، مالك بن نبي، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، 1986م.
ع:
- العرب والتاريخ، برنارد لويس، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1954م.
- عطر السماء، عبد المعطي الدالاتي، مؤسسة الرسالة، دمشق، ط3 ، 2002م.
- العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها د. إسماعيل علي محمد، دار تنوير للنشر والتوزيع، مصر، ط2، 2007م.
ف:
- فلسفتنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف، بيروت، ط ، 1998م.
ق:
- القديم والحديث، محمد كرد علي، المطبعة الرحمانية بمصر، ط1، 1925م،
- القضايا الكبرى، مالك بن نبي، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، ط1، 1991م.
ل:
- لسان العرب، ابن منظور محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت، ط3، 1414هـ.
م:
- محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة، أحمد عبد الله أبو زيد العاملي، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، ط1، 2006م.
- المدرسة القرآنية، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الدار العالمية، بيروت، ط1، 1989م.
- مستدرك وسائل الشيعة، الشيخ المحدث النوري، مؤسسة آل البيت، قم-إيران، 1408هـ
- مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، ط4، 1984م.
- المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس- عبد الحليم منتصر- عطية الصوالحي- محمد خلف الله أحمد، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 2004م
- معلمة الإسلام، أنور الجندي، دار الصحوة للنشر، القاهرة، ط2، 1989م.
- مهزلة العقل البشري، علي الوردي، دار كوفان للنشر، بيروت- لبنان، ط2، 1994م.
ن:
- نظرية التراث، الدكتور فهمي جدعان، دار الشروق، عمان- الأردن، ط1، 1985م
الشبكة العنكبوتية:
- – Cultural Awareness .nccc.georgetown.edu, Reteieved 6-3-2020. Edited
- – The Cultural Environment, WWW.fao.org, Retrieved 6-3-2020. Edited
- “- Culture, Meaning, Characteristics, Elements, Cultural Lag” patnawomensscollege.in, Retrieved 6-3-2020. Page 4-8 Edited.
- – Hitesh Bhasin(21/6/2020), “What is Culture? Types and Characteristics”, marketing91, Retrieved 14/4/2022. Edited
- – Engaging Communities”, engagingcommunities, Retrieved 14/4/2022. Edited
