مؤسسة دار الإسلام الثقافية الخيريةمؤسسة دار الإسلام الثقافية الخيريةمؤسسة دار الإسلام الثقافية الخيريةمؤسسة دار الإسلام الثقافية الخيرية
  • موسسة دارالإسلام
    • حول مؤسسة دار الإسلام الثقافية الخيرية
    • أهداف المؤسسة
    • جامعة الامام جعفر الصادق
    • المدرسة الدينية
    • أخبار
  • جائزة الشهيد الصدر
    • حول الجائزة
    • تاريخ الجائزة وابرز البحوث
      • دورة الاولى
      • دورة الثانية
      • دورة الثالثة
      • الدورة الرابعة
      • الدورة الخامسة
    • الدورة السادسة
  • النشاطات الخيرية
    • المشروع السكني الخيري
    • مساعدات
  • الإصدارات الثقافية
    • مجلة الفكر الجديد
  • الامين العام
    • نبذة عن حياته
    • مؤلفاته
    • الوكالات الشرعية
✕

معالم المجتمع التوحيدي عند الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس سره) دراسة تحليلية

العنوان: معالم المجتمع التوحيدي عند الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس سره) دراسة تحليلية
الكاتب/الكتّاب:

م.د حميد علي راضي الدهلكي - جامعة الإمام جعفر الصادق(ع)/ كلية الآداب/ قسم علوم القران
-
-
-

تحميل PDF

الملخّص

تختلف معالم المجتمع التوحيدي عن المجتمع الفرعوني عند تنظيرات الشهيد الصدر(قدس سره) اذ يُعد المجتمع التوحيدي بجميع تركيباته أنه ناشئ وفق أحكام الله وشريعته؛ وذلك هو المجتمع الصالح الذي ينتفع بوجوده كل فرد فيه , في قبال المجتمع الفرعوني الذي تسيطر عليه جماعة من المستغلين والمستكبرين وتحكمه وتسوسه بما تهوى انفسهم وما تفرض عليهم طبيعة شهواتهم وأطماعهم؛ وذلك هو المجتمع الفرعوني الذي يتضرر غالبية الناس فيه .

والفرعونية عند الشهيد الصدر ليست اسماً لشخص محدد حكم بلاد مصر , وإنما لقب لسلسلة من الملوك حكمت تلك البلاد وما حولها, فيما امتد إليه سلطان أولئك المستكبرين , وصارت هذه الصفة عنواناً لكل سلطان لا يحكم بما أنزل الله ويستكبر على دعوة الهدى في أمته.

وكباحث أرى أن الفرعونية ظاهرة سلوكية تعبّر عن عقلية طبعية نرجسية كامنة في مكنونات و (جينات) الإنسان, وتتحول من القوة إلى الفعل عندما تتأتى ظروفها, وتتوافر مناخاتها فهي تكبر وتتنامى عند تقادم الإنسان في العمر, وتبدأ بالتضخم كلما ازدادت مصالح الإنسان وميوله ورغباته في الاستحواذ على متطلبات الحياة من أجل بقائه, ودوام استمراره, ويأتي دور الدين ومفاهيمه الأخلاقية ليشكل كابحاً للحؤول دون طغيان هذه الظاهرة وانتشارها لتتوسع من الفرد لتشمل العائلة والعشيرة والحزب وطبقات المجتمع حتى تصل إلى فرعونية الدولة وتفردها بالحكم وبمقدرات المجتمع والاستحواذ على كل شؤونه ومقدراته؛ لينشأ المجتمع الفرعوني بعدئذ كخط مواز للمجتمع التوحيدي الذي نريد بيان معالمه في بحثنا هذا, لنركز على بنية ومناشئ هذا المجتمع والذي تشكل فيه عقيدة التوحيد الأساس والمنطلق.

ويتضمن بحثنا هذا؛ على مقدمة تمهيدية لبيان اصطلاحات الموضوع وأهميته وأهدافه في مطالب تشكل بمجموعها الهيكل والاطار الذي يتقوم على قاعدة ومحور التوحيد, ومنها: دور التوحيد والاستخلاف في المجتمع التوحيدي, ودور التوحيد في ثورة الأنبياء عبر التاريخ, ومن ثم ننتقل إلى مبحث ثان نوضح فيه مطالب منها: دور التوحيدي في حرية الأنسان, ودور التوحيد في التنمية وفق متطلبات الإسلام ومفاهيمه, ودور التوحيد وأهميته في العدل الاجتماعي ليكون انعكاساً لتجسيد صفة العدل الإلهي في أرضه , لنختم بعدها عن أهمية التوحيد في مسار وحركة التاريخ , ودور الإنسان في هذه الحركة التاريخية من منظور قرآني؛ لنختم هذه الدراسة بنتائج وتوصيات المجتمع التوحيدي الذي وعدنا الله به ليمكن الصالحين من عباده ليرثوا الأرض ويسخّروا خيراتها ليكونوا أنموذجاً موطئاً لدولة الحق والعدل الإلهي التي وعدها الله لعباده.

الكلمات المفتاحية: المجتمع,التوحيدي,الصدر,الحرية,التاريخ

Abstract:

The features of the monotheistic society differ from the Pharaonic society in the theories of the martyr al-Sadr (may his secret be sanctified), as the monotheistic society, in all its compositions, is considered to be emerging according to the provisions of God and His law; And that is the good society whose existence every individual benefits from, in contrast to the Pharaonic society that is controlled by a group of exploiters and arrogant and governed and corrupted by what they like themselves and what the nature of their lusts and greed imposes on them; And that is the Pharaonic society in which the majority of people are affected.

And Pharaonic according to the martyr al-Sadr is not a name for a specific person who ruled the country of Egypt, but rather a title for a series of kings who ruled that country and its surroundings, while the authority of those arrogant ones extended to him, and this adjective became a title for every sultan who does not rule by what God has revealed and is arrogant to call for guidance in his nation.

As a researcher, I see that the Pharaonic phenomenon is a behavioral phenomenon that expresses a natural narcissistic mentality latent in the human beings and (genes), and it turns from strength to action when its conditions come, and its climates become available, as it grows and grows when a person ages, and begins to swell as the human interests, tendencies, and desires for possession increase. on the requirements of life for its survival, and the permanence of its continuity, and the role of religion and its moral concepts comes to constitute a brake to prevent the tyranny of this phenomenon and its spread to expand from the individual to include the family, the clan, the party, and the classes of society until it reaches the pharaonic state and its uniqueness in governance and the capabilities of society and the acquisition of all its affairs and capabilities; Then the Pharaonic society would emerge as a line parallel to the monotheistic society whose features we want to explain in this research. Let us focus on the structure and origins of this society, in which the doctrine of monotheism forms the basis and starting point.

Our research includes this; On an introductory introduction to clarifying the terminology of the subject, its importance, and its objectives in demands that together form the structure and framework that is based on the base and axis of monotheism, including: the role of monotheism and succession in the monotheistic society, and the role of monotheism in the revolution of the prophets throughout history, and then we move to a second topic in which we clarify demands, including: the role of The monotheistic in human freedom, the role of monotheism in development according to the requirements and concepts of Islam, the role of monotheism and its importance in social justice to be a reflection of the embodiment of the characteristic of divine justice in his land, let us conclude after that on the importance of monotheism in the course and movement of history, and the role of man in this historical movement from a Quranic perspective; Let us conclude this study with the results and recommendations of the monotheistic society that God promised us to enable the righteous among His servants to inherit the earth and harness its bounties to be a model for the state of truth and divine justice that God promised to His servants.

Keywords: Society, Monotheism, Al-Sadr, Freedom, History

البحث الكامل

مقدمة:

قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}.([1])

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدَّم، والصلاة والسلام على رسوله الاكرم، وعلى آله وصحبة النجباء.

أما بعد:

فإنَّ المجتمع التوحيدي الذي نظَّر له الشهيد محمد باقر الصدر (قدس) يبتني على ضوء فكر عميق وشامل، وشريعة فيها حدود وقوانين تستطيع ان تستوعب الحياة الجديدة بما فيها من التطور في المجالات كافة، وتأتي اهمية المجتمع التوحيدي هذا بعد مرحلة التشتت والاختلاف والتشرذم في حياة الاَّمم، بعد أن بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما أختلفوا فيه؛ وليؤسسوا المجتمع الصالح الذي تظهر فيه الفضيلة والاستقامة مرة أُخرى، ويتحقق فيه التوازن الاجتماعي وتكافؤ الفرص، وتذوب فيه كل الفروقات بين البشر، وكل تفاضل بين الناس، وكل تمايز الا في التقوى والعمل الصالح المعطاء الذي ليس فيه انانية ولا طمع ولا استغلال ولا ظلم، في هذا المجتمع الذي تتحقق فيه الحياة الحرة والكريمة، والعيش الرغيد كمطلب ثان، يأتي بعد هدف أساسي من ايجاده وهو وجود الفرصة لكل إنسان أن ينمو بفكره ونفسه صعوداً وارتقاء حتى يُناطح السماء سموا وارتفاعاً في عقله وسلوكه والذي يحقق له ولمجتمعه امرين، الأوَّل: وهو الأهم، رضوان الله تعالى ونعيم الأبد، والثاني: وهو المهم، نعمة الله في الدنيا وبركاته.

ويرى الشهيد الصدر (قدس): أن الطرح الفكري والتشريعي لبناء هذا المجتمع التوحيدي منذ أن طرح أوَّل مرة على لسان نبي الله نوح (عليه السلام) إِلى يومنا هذا لا يزال على مستوى النظرية في أغلب جوانبه، ولم تتشرف البشرية بتطبيق هذا الفكر والتشريع ألا في فترات قصيرة جداً، أبرزها زمن رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي هاتين الفترتين من عمر هذه المرحلة كان الجهاد قائماً على أشده بين أئمة الهدى من الرسل والانبياء والصالحين وأتباعهم من المؤمنين الصابرين من جهة، وبين أئمة الضلالة من الفراعنة والمستكبرين وأعوانهم والمتملقين لهم من جهة أُخرى، وخلاصة فكرة الشهيد الصدر عن تبني ورؤية المجتمع الصالح هي: أن كل مجتمع لأية أمة من الأمم الغابرة والحاضرة لم يتبنَ الفكر التشريعي الرباني في بنائه فهو مجتمع فرعوني في درجة من الدرجات الفرعونية.

ولم يكن الطرح النظري للشهيد محمد باقر الصدر بعيداً عن الواقع، ولا ضرباً من الخيال والأحلام، بل هو نظرة حقيقية وواقعية واستشرافية قابلة للتحقق متى ما توافرت شروطها واجتمعت عواملها، وتفاعلت فيها مبادئ الاصلاح المقعَّدة على وجود المبدأ الصالح، والقائد المصلح والانصار المصلحين، والبيئة الصالحة، عندها تتحقق عملية الإصلاح؛ لتكون أرضية للمجتمع الصالح، ولهذا عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، قال الشهيد الصدر قولته: لقد حقق الامام الخميني حلم الانبياء، لأنّه جسدَّ النظرية إِلى واقع عملي وقابل للتطبيق، وهي تجربة رائدة وقابلة للتكرير في أي زمن آخر، وفي أي بقعة أُخرى عند استيفاء ظروفها وشروطها، لتكون تجربة رائدة هنا، وأُخرى هناك، حتى تتكامل التجارب في مسار المجتمع التوحيدي الذي وعدنا الله تعالى به بقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ([2]).

اشكالية البحث:

يواجه بحث المجتمع التوحيدي معضلات عدة منها:-

اولاً: توهم البعض أنه بحث نظري وغيبي وميتافيزيقي وبعيد عن الواقع.

ثانياً: معارضة المجتمع التوحيدي وسبل تحقيقه وايجاده لتجارب المادية الوضعية سواء الديالكتيكية منها أو الليبرالية، والتي يتبناها ماركس وامثاله، وفرانسيس فوكوياما ونظريته في نهاية التاريخ، وصاموئيل هنتغتون ونظريته في صراع الحضارات والتي تنظِّر جميعاً إِلى تجربة الرأسمالية والليبرالية ونجاحها في قيادة الشعوب وتغلبها على كل الحضارات بما فيها الحضارة الإسلامية.

ثالثاً: وهنالك معضل ثالث يواجهه المجتمع التوحيدي وهو: وجود الحركات السلوكية المنحرفة بفكرها والمدعمّة من جهات خارجية ومخابراتية ويؤسفنا أنها متغلغلة في أوساط ساحتنا الإسلامية، وتشيع هذه الحركات أفكاراً تشجع فيه على ازدياد الظلم والفساد والجريمة في المجتمعات من اجل التعجيل بظهور المنقذ والمخلص الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، على حد زعم هذه الحركات المنحرفة، وتعد هذه النظريات معوقاً أساسياً ضد مشروع المجتمع التوحيدي، لاسيما وان المرجعيات والمؤسسات الدينية لم تتصد لأمثال هذه الحركات للحؤول دون امتدادها وانتشارها، مضافاً إِلى ان نفس المؤسسة الدينية بإطارها العام لم تؤمن باقامة دولة إسلامية تكون مقدمة وموطئة لدولة المنقذ والمصلح، لهذه المعضلات وغيرها يأتي هذا البحث المعاصر.

الدراسات السابقة

هنالك العديد من الدراسات التي تناولت فكر الشهيد الصدر نقداً وتحليلاً وكل باحث يأخذ جانباً من أفكار الشهيد الصدر ينسجم مع غرضه البحثي وقد اعتمدنا في بحثنا على جملة من الدراسات منها:-

اولاً: كتب ومؤلفات الشهيد محمد باقر الصدر نفسه، أمثال فلسفتنا، واقتصادنا، والإسلام يقود الحياة، والمدرسة القرآنية، والمدرسة الإسلامية وغيرها.

ثانياً: المجتمع الفرعوني دراسة موضوعية في المذهب الاجتماعي التاريخي، اعداد: محمد علي أمين.

ثالثاً: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم، الشهيد محمد باقر الحكيم.

رابعاً: فلسفة الصدر، الدكتور محمد عبد اللاوي.

خامساً: منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، الدكتور عبد الجبار الرفاعي.

اهمية البحث:

يأتي هذا البحث في وقت طغت فيه المادة، وزادت فيه الفتن، وكثرة الحروب، وزاد الاستكبار في ظلمة وغطرسته واستغلاله للشعوب الفقيرة والمستضعفة، وجاء هذا البحث ليبين قوة المنطق على منطق القوة، ليتحدى كل المدارس الوضعية وحتى الدينية التي تريد تدجين الإنسان والاستسلام لقدره، وحرف فطرته، وطمس هويته، وتخدير عقله، بالشذوذ الجنسي، والمخدرات، والالحاد، لكل هذه وغيرها تأتي أهمية هذا البحث، لنوضح للجميع أننا أمة ممكن أن تتراجع ولكنها لم تمت لأنَّ الماضي معنا والمستقبل بانتظارنا.

منهجية البحث:

اعتمدت المنهج التوليفي الذي يجمع بين الوصف والتحليل والمقارنة، مستعينا بكتب ومؤلفات الشهيد الصدر بالدرجة الأساس واستقرأت العناوين وبحثتها بحثاً موضوعياً، مهتدياً بآيات الله وتفسيرها والرجوع اليها لمعاضدة أو معاكسة الفكرة؛ لكون القرآن هو المرجع الأساس لصياغة نظرية أو استنباط مفهوم.

هيكلية البحث:

قسم البحث إِلى ثلاث مباحث مع مطالبها، مضافاً إِلى ملخصه باللغتين العربية والانجليزية، مع مقدمة، ونتائج للبحث، مع قائمة للهوامش والمصادر وقد فصَّلت كل ذلك برسم مهيكل يوضح فيه قاعدة المجتمع التوحيدي كمنطلق حتى نصل إِلى المجتمع الصالح، في الشكل الاتي:- 

معالم المجتمع التوحيدي عند الشهيد محمد باقر الصدر (قدس)

قبل الشروع بمباحث ومطالب البحث المعنون، نقف قليلاً عند المعاني اللغوية والاصطلاحية لمفردات العنوان لمعرفة مداليلها، وان كانت واضحة جلية بشكل عام، ولكن نرجع لأهل اللغة والاختصاص لنصحح ونوثق فهم لغتنا العرفي مع أصالة لغة ذوي الاختصاص للمفردات الاتية:-

اولاً: معالم لغة واصطلاحاً:

معالم لغة: معلم (اسم)، والجمع معالم: المَعْلَمُ: العلامة، والمعلم من كل شيء: مظنته، ومعلم الطريق التي تدلُ عليها، معالم المدينة، الابنية، ونحوها التي تشتهر بها وتميزها عن غيرها من المدن.([3])

المعلم اصطلاحاً: ما يجعل علماً وعلامة للطرق مثل أعلام الحرم ومعالمه المضروبة عليه التي يستدل بها على انتهاء الحرم وابتدائه، ومعالم: العلامات التي تدل على الشيء، ومن شواهده حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم معالمِ دينكم).([4])

ثانياً: المجتمع لغة واصطلاحاً:

المجتمع لغة: بأنه كلمة مشتقة من الفعل (جَمَعَ)، جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعاً وجمَّعه وأجْمَعَه فاجتمع، أي اجتماع الناس على شكل جماعة.

المجتمع اصطلاحاً: بأنه: مجموعة من الناس يرتبطون معاً بمجموعة من العادات، والتقاليد، والاحكام الأخلاقية، ويحترمون بعضهم البعض، ويشكلون في الحيَّ، أو القرية، أو المدينة التي يعيشون فيها جزءًا من أجزاء الحياة الاجتماعية.([5])

ثالثاً: التوحيد:

التوحيد لغة: جعل الشيّ واحداً غير متعدد.

التوحيد اصطلاحاً: تجريد الذات الالهية عن كل ما يتصور في الأفهام، ويتخيل في الأوهام والاذهان، والتوحيد: ثلاثة أشياء، معرفة الله بالربوبية، والإقرار بالوحدانية ونفي الانداد عنه جملة.([6])

 

المبحث الأوَّل: عقيدة المجتمع التوحيدي

لكل مجتمع قواعد أساسية يعتمد عليها البناء الفوقاني للنظام الإجتماعي،  سواء أكان ذلك النظام أشتراكياً أم رأسمالياً أم إسلامياً ام غيره، وتشكل عقيدة ذلك النظام الأساس الذي يتقوم البناء عليه، ونبحث هذا بمطالب:-

المطلب الأوَّل: البناء العقدي في المجتمع التوحيدي

المتابع لأفكار الشهيد الصدر بشكل عام يقف عند نقطة جوهرية مهمة وهي:

أن الشهيد الصدر يحاول دائماً استكشاف المذهب وأسسه ومبادئه بدراسة تأصيلية مستوحاة من القرآن الكريم أولاً والسنة المطهرة ثانياً، لتكون أفكاره أصيلة ونقية وغير هجينة، وليست التقاطية من مدرسة هنا، ومذهب هناك، وبهذه العقلية المتحررة استطاع بكل جرأة وشجاعة وثقة أن ينسب ما أكتشفه ليعبِّر عنه بلغة الـ (أنا)، ناسباً اكتشافه إِلى الإسلام لا لشخصه وذاته، ولهذا كانت اكتشافاته أصيلة يتحدى بها الفلسفات الأُخرى، بفلسفة إسلامية تعبِّر عن وجهة نظر الإسلام عن الكون والحياة بلغة (فلسفتنا)، وبنفس الطريقة والمنهج دحض المدارس الاقتصادية من الماركسية والاشتراكية والرأسمالية، ليكتشف لنا مذهباً إقتصادياً، سماه الشهيد الصدر (اقتصادنا)، ونسبة إِلى الإسلام بكل جرأة، وعلى هذا المنوال يؤسس الشهيد الصدر مذهبه في (مجتمعنا)، والذي لم يرَ النور، وتناثرت اوراقه،  وتبعثرت أفكاره، وما علينا إلا أن نجمع شتات قسم منها بدراسات موضوعية علنا نستطيع تبيان ملامح ومعالم مجتمعنا، والذي تشكل فيه العقيدة الإسلامية الأساس والارضية التي يشاد عليها هيكل هذا المجتمع التوحيدي، إِذْ تعد عقيدة التوحيد الأساسية التي ترتكز عليه دعائم البناء الفوقاني لإنشاء وتكوين المجتمع التوحيدي، ويعبِّر الصدر عن الأسس العقدية بقوله: (أن العقيدة وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إِلى الكون بصورة عامة، وثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة، والعواطف والاحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها إِلى صف تلك المفاهيم، فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، والمفاهيم الإسلامية بدورها موضوعة في العقيدة الإسلامية الأساسية….. ففي ظل عقيدة التوحيد ينشأ المفهوم الإسلامي عن التقوى القائل: إن التقوى هي ميزان الكرامة والتفاضل بين أفراد الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.([7]) وتتولد عن هذا المفهوم عاطفة إسلامية بالنسبة إِلى التقوى والمتقين، وهي عاطفة الاجلال والاحترام).([8])

إنَّ هذه الارضية الإسلامية العامة للحياة تعد المرتكز والأساس الذي يشيّد عليه البناء الفوقاني ليجسد صورة المجتمع التوحيدي، إِذْ تعد عقيدة التوحيد المنبع الأساس الذي تصدر عنه العناصر المكونة للقاعدة الأساسية في هذا المجتمع، وعلى أساس هذه القاعدة تقوم البناءات الفوقية من نظم وقوانين وتشريعات، والتي تضبط العلاقات بين الإنسان واخيه الإنسان من جانب، والإنسان والطبيعة من جانب اخر، وتنظم نمط الحياة الاجتماعية وتكيفها بنحو لا يتقاطع مع النظرة الكونية التوحيدية.

في هذا الضوء تنتظم الظواهر والعلاقات والأنشطة الاجتماعية بتمامها في إطار عقيدة التوحيد، ويصبح التوحيد من منظور الشهيد الصدر محوراً لكل العناوين التي سنبحثها انفاً.([9])

المطلب الثاني: عقيدة الإستخلاف التوحيدية

المتابع للمسار القرآني يلاحظ أن القرآن قد اعتبر الإنسان كمحور أساس للحياة والكون والمجتمع، ونلاحظ ذلك من خلال الابعاد الاتية:-

اولاً: ان الله تعالى جعل الإنسان خليفته في الارض، وبهذا إمتاز الإنسان على بقية المخلوقات، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.([10])

ثانياً: إنَّ الله تعالى خصّ الإنسان وحملَّه بالأمانة دون سائر المخلوقات جميعاً، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}([11])، وذلك أن الجبال رغم ضخامتها وقوتها ورسوخها تثبت الارض، ومع كل ذلك لم تتمكن من حمل هذه الامانة الالهية، بينما كان الإنسان مؤهلاً لذلك دون السموات والارض والجبال.

ثالثاً: ان الله تبارك وتعالى سخَّر الموجودات للإنسان، وجعله قادراً على التصرف فيها، كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}([12]).

رابعاً: ان الله تعالى ربط التغييرات الحياتية في هذا الكون بالتغييرات التي تطرأ على الإنسان ومحتواه الداخلي (الروحي والنفسي)، وهذه صفة وخصوصية تميز الإنسان على بقية الموجودات بحيث أصبح هو المحور لهذه الموجودات.

وهذا البعد يمثل النتيجة لبقية الامتيازات السابقة، ويعبَّر عنها، فنحن نرى من خلال القرآن الكريم، أن التغييرات الاجتماعية في الحياة الإنسانية ترتبط بالتغييرات النفسية، والتغييرات الكونية ترتبط بالتغييرات الاجتماعية الكلية، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([13]).

ربطت الآية الخيرات والبركات بالمجتمع الذي تسوده التقوى والايمان والعمل الصالح.([14])

وخلاصة ما يستفاد من الابعاد السابقة التي ذكرها القرآن الكريم: أن الإنسان يمثل المحور الأساسي في هذا الكون المحيط به، من سموات وارض، ومخلوقات، وملائكة وجن، وحيوانات، ونباتات، لأنه العنصر الذي يستحق هذه الاهليه بإمتياز، كل ذلك؛ لأنه يجسِّد ارادة الله في أرضه، وهو القادر على استخلاف الارض وربط الناس بخالقهم ومعبودهم عبر التوحيد.

ولو أردنا تحليل الآية المباركة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ([15])، يقول الشهيد الصدر (قدس)، في هذه الآية المباركة (قدس) إِلى وجود ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارات القرآنية:-

اولاً: المستخلَف، وهو الإنسان الخليفة.

ثانياً: مستخلفاً عليه، وهو الأرض، أو الطبيعة على وجه عام والتي سخِّرت للإنسان {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}([16]).

ثالثاً: العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان (السمتخلَف) بالطبيعة (المستخلف عليه)، وتربط من ناحية أُخرى الإنسان بأخيه الإنسان، وهذه العلاقة المعنوية التي سماها القرآن الكريم بالإستخلاف، وهذه هي عناصر المجتمع: الإنسان، والطبيعة، والعلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالطبيعة من ناحية وتربط الإنسان بأخيه الإنسان من ناحية أُخرى، وهي العلاقة التي سميت قرآنياً بالإستخلاف.([17])

وهنالك صيغة للإستخلاف تعبِّر عن صورة لبناء المجتمع تغاير الصيغة ذات العناصر الثلاثة التي ذُكرت، إِذْ نلاحظ أن الاستخلاف يتخذ صيغة رباعية الاطراف في بناء المجتمع التوحيدي، حيث نجد بالتحليل ضمن هذه الصيغة، توافر العناصر الأربعة وهي: اولاً: المستخلَف وهو الإنسان، وثانياً: المستخلَف معه، وهو علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وثالثاً: المستخلف عليه، وهو الطبيعة وثرواتها، ورابعاً: المستخلِف، وهو الله تعالى.

من هنا يتغاير المجتمع ذي العناصر الثلاثة، مع المجتمع ذي العناصر الاربعة؛ لأنَّ الأوَّل تنقطع الصلة بينه وبين الطرف الرابع وينفصل المجتمع عن الله تعالى، لهذا يتغاير هذا المجتمع بصورة جوهرية عن المجتمع التوحيدي ذي الصيغة الرباعية الاطراف، لأنَّ (إضافة العنصر الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد إضافة عددية، ليس مجرد طرف جديد يضاف إِلى الاطراف الأُخرى، بل ان هذه الاضافة تُحدِث تغييراً نوعياً في بنية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الأُخرى، من هنا ليس مجرد عملية جمع ثلاثة زائداً واحداً، بل هذا الواحد الذي يضاف إِلى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحاً أُخرى ومفهوماً اخر، سوف يُحدث تغييراً أساسياً في بنية العلاقة ذات الاطراف الأربعة)([18]).

إنَّ هذا التغيير بين الصيغة بعناصرها الثلاثة بدون المستخلِف وهو الله، وبين الصيغة بعناصرها الاربعة بوجود المستخلِف وهو الله تعالى، نلاحظ ان هذا التغيير ينشأ من الرؤية التوحيدية التي يتبناها المؤمن، عن غيره الذي لا يؤمن بالله تعالى.

فإن المؤمن يعتقد أن: (لا سيّد ولا مالك ولا إله للكون وللحياة الا الله سبحانه وتعالى وان دور الإنسان في ممارسة حياته إنما هو دور الإستخلاف والاستئمان، واي علاقة تنشأ بين الإنسان والطبيعة فهي في جوهرها ليست علاقة مالك بمملوك وإنما هي علاقة أمين على أمانة استؤمن عليها، وأي علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان -مهما كان المركز الاجتماعي لهذا أو لذاك- فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان أو ذاك مؤدياً لواجب هذه الخلافةـ وليست علاقة سيادة أو الوهية أو مالكية)([19]).

على هذا الأساس يكون التوحيد مقوِّماً وجودياً لهوية المجتمع التوحيدي، إِذْ يدخل المستخلِف وهو الله تعالى كركن رابع وركين في عناصر الاستخلاف، فإذا انسلخ المجتمع عن الإرتباط بالله تهشمت هويته، وتقطعت اواصره الاجتماعية، واتخذ نمطاً مغايراً من العلاقات وتبدت في حياته أشكال أُخرى من العلاقات والظواهر الاجتماعية.([20])

المطلب الثالث: ثورة الانبياء التوحيدية

وبإنتقالة سريعة من دور الاستخلاف لآدم (عليه السلام) ورعاية الله وحضانته له في جنينته الأرضية: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}([21])، وكان لابُد من مرور فترة تنمو فيها تجربة آدم وحواء زوجه وتصل إِلى الدرجة التي تتيح لهما أن يبدءا مسيرتهما في الارض وكدحهما من خلال ممارسة أعباء الخلافة، وما أعقبها من امتحان لهما واغواء من الشيطان لهما وما أعقب ذلك من معصيتهما بترك الاولى وإحساسهما بالندم عقيب ذلك، كل هذا لكي يتكامل وعي آدم (عليه السلام) وتنضج خبراته المتنوعة، وتعلم الاسماء كلها، وقد حان وقت خروجه من الجنة إِلى الارض التي استخلف عليها ليمارس مسيرته نحو الله من خلال دوره في الخلافة.([22])

وكان المعلم البارز لمرحلة الخلافة هي الفطرة، قال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}([23])، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}([24]).

وقد جاء في التفسير عن الامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله، لا مهتدين ولا ضلالاً، فبعث الله النبيين.([25])

من هنا نفهم ان الجماعة البشرية بدأت خلافتها على الارض بوصفها أمة واحدة وأنشأت مجتمع التوحيد الموحّد، وكانت الفطرة ركيزته الاولى، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}([26]).

فكانت معالم الفطرة الإنسانية تعتمد على الايمان بالله وحدهِ، ونبذ كل ألوان الشرك والطاغوت، ووحدة الهدف والمصلحة والمسير إِلى الله، واي شرك وجبروت، وأي تناقض وتفرق فهو انحراف عن الفطرة.([27])

وهكذا شكلّت الفطرة في البداية أساساً لإقامة المجتمع التوحيدي، وكان الإنسان –ممثلاً في الجماعة الإنسانية كلها- يمارس خلافة الله في أرضه وفقاً لذلك، وكان خط الشهادة ممثلاً في الانبياء قائماً إِلى جنب خط الخلافة، وكان دور الانبياء في تلك المرحلة ممارسة مهمة الشهيد الرباني، والهادي، والموجِّه، والرقيب، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}([28])، وهنا (بدأ الاستغلال والتناقض في المصالح على السيطرة والتملك، وظهر الفساد وسفك الدماء وذلك؛ لأنَّ التجربة الاجتماعية نفسها وممارسة العمل على الارض نمَّت خبرات الافراد ووسِّعت إمكاناتهم، فبرزت ألوان التفاوت بين مواهبهم وقابلياتهم، ونجم عن هذا التفاوت اختلاف مواقعهم على الساحة الاجتماعية، واتاح ذلك فرص الاستغلال لمن حظي بالموقع الاقوى، وانقسم المجتمع بسبب ذلك إِلى أقوياء وضعفاء ومتوسطين، وبالتالي إِلى مستغلِّين ومستضعفين، وفقدت الجماعة البشرية بذلك وحدتها الفطرية)([29]).

وانقسم المجتمع بعد هذا إِلى أقوياء مستغِلين، وضعفاء مستغَلين، وظالمي لأنفسهم، وأما المستضعفون الذين لم يظلموا أنفسهم ولم يستسلموا للظلم، فهؤلاء هم الورثة الشرعيّون للجماعة البشرية في خلافتها، وقد وعدهم الله بذلك بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([30])؛ ولأن المجتمع قد غرق في الوان الاستغلال، وسيطرت عليه علاقات اجتماعية، وتجسَّد الانحراف وتعبيد الناس لغير الله بعيداً عن خط الفطرة، وما رافق ذلك من انحرافات فكرية، وممارسات سلوكية، واساطير وثنية مزقت المجتمع شيعاً واحزاباً، ولم يبق مستضعف غير ظالم لنفسه الا عدد قليل مغلوب على أمره جاء دور الانبياء للقيام بثورتهم التوحيدية سواء أكانت تصحيحية ام تغيرية لإعادة المجتمع التوحيدي معتمدين على العقيدة كأساس ومنطلق، من أجل مشروع حضاري يصل العقيدة بالحياة، (وان اصول الدين الخمسة التي تمثل على الصعيد العقائدي جوهر الإسلام والمحتوى الأساسي لرسالة السماء، هي في الوقت نفسه تمثل بأوجهها الاجتماعية على صعيد الثورة الاجتماعية التي قادها الأنبياء الصورة المتكاملة لأسس هذه الثورة، وترسم للمسيرة البشرية معالم خلافتها العامة على الأرض)([31])؛ لتطوير المشاعر على نحو تمثل الإحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحق والقسط والايمان بعبودية الإنسان لله وحده- التي تحررِّه من كل عبودية- وبالكرامة الإنسانية.

وقد ميز الشهيد الصدر (قدس) بين ثورة الانبياء المقعدة على أساس التوحيد وغيرها من الثورات الإجتماعية في التاريخ، بإعتبار أن الثانية التي تتخذ اشكالاً وانماطاً مختلفة في ثورتها من قبل المستغَلين ضد المستغِلين، سواء أكانت مقاومتها صامتة حيناً أم متحركة حيناً آخر، أم ثائرة ثالثاً، فهي ثورات تحمل نفس الخلفية النفسية التي يحملها المستغِلّون، وتنطلق من نفس المشاعر والأحاسيس التي خلفتها ظروف الإستغلال، وهذا يؤدي في الحقيقة إِلى أن الثورة لن تكون ثورة على الاستغلال وجذوره، ولن تعيد الجماعة إِلى مسيرتها الرشيدة ودورها الخلافي الصالح.

بينما ثورة الانبياء التوحيدية لا تستهلك طاقتها لتحرير الإنسان من الخارج فقط، من دون ان تغوص إِلى الأعماق، مثلما تفعل الثورات الاجتماعية، التي تحاول القضاء على الظلم والطغيان في الخارج، فيما تهمل جذور الظلم والطغيان وما اليهما من ألوان التناقض الاجتماعي الأُخرى الكامنة في أعماق النفس البشرية، فإن استئصال لون من التناقض الخارجي أو اكثر لا يطهِّر المجتمع من ذلك، وإنما ستنبت في محله ألوان أُخرى، ما دام منبع هذه التناقضات في الداخل باقياً على حالة، ولم يجفف؛ ولذلك انطفأت الثورات التي قام بها الإنسان عبر التاريخ، وقدَّم في سبيلها تضحيات جسيمة؛ لأنَّ هدفها اقتصر على القضاء على الشكل الخارجي البارز للتناقض الاجتماعي، فاستبدل هذا الشكل بشكل اخر بعد حين؛ لأنَّ المصدر الداخلي الذي يموِّن ويحرك التناقض الاجتماعي ظل على حاله، وبذلك يتجلى الفرق بين ثورة الانبياء والثورات الأُخرى فان: (ثورة الانبياء تميزت عن أي ثورةٍ اجتماعية أُخرى في التاريخ تميزاً نوعياً؛ لأنها حررت الإنسان من الداخل، وحررت الكون من الخارج في وقت واحد، وأطلق على التحرير الأوَّل اسم الجهاد الأكبر، وعلى التحرير الثاني اسم الجهاد الأصغر؛ لأنَّ هذا الجهاد لن يحدد هدفه العظيم إلا في إطار الجهاد الأكبر… ولهذا لن تكون عملية الاستبدال الثوري على يد الانبياء كما استبدل الاقطاعي بالرأسمالي، أو الرأسمالي بالبروليتاريا، أي مجرد تغيير لمواقع الاستغلال، وإنما هي تصفية لنهاية الاستغلال ولكل الوان الظلم البشري).([32])

وهنالك روايات عديدة تنقل عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤكد ان الأساس بالجهاد هو جهاد النفس الأكبر، وتقدمه على الجهاد بالسيف الأصغر، لأنَّ النفس هي الأساس والمنطلق الذي ينبغي لها أن تتغير لكي تُغِير، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}([33]).

من هنا جاءت الروايات مؤكدة لهذا المعنى ومنها: عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية فلما رجعوا قال: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر) قيل يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: (جهاد النفس)، وقال عليه السلام: (أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)([34]).

من هنا نلاحظ الاختلاف الجوهري بين ثورة الانبياء التوحيدية عن غيرها، إِذْ ان ثورة الانبياء لا تعالج ظواهر الظلم والطغيان والاستبداد وغيرها فقط، بل تغوص إِلى الاعماق لاجتثاث أسباب هذه الظواهر وتجفيف منابعها، بعكس الثورات الأُخرى التي تغير في الشكل دون تغيير المضمون وجوهرهِ. ان ثورة الانبياء تقوم على تغيير نظرة الثائر عن الكون والحياة عبر تبصيره بالرؤية الكونية التوحيدية أولاً، ثم تطهير نفسه من منابع الاستغلال والظلم المتغلغل في أعماقها ثانياً، فما لم يتم تطهير الثائر التوحيدي من الداخل وتحرير وعيه من كل ألوان الشرك، لا يمكن أن يرتفع إِلى مستوى القدرة ليكون انموذجاً لبقية الناس؛ لكي يستأصل مظاهر الاستغلال في المجتمع([35]).

المطلب الرابع: بناء الدولة التوحيدية

توصلنا في مطلبنا السابق: بأن الثورة الحقيقية لا يمكن لها أن تنفصل بحال من الاحوال عن الوحي، كما لا يمكن للأنبياء ان ينفصلوا عن وحي السماء، كما أنَّ النبوة والرسالة الربانية لا تنفصل بحال من الاحوال عن الثورة الاجتماعية لمجابهة واستئصال الظلم والاستغلال والترف والطغيان وأمثال ذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}([36])، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}([37]).

(فالنبوة ظاهرة ربانية تمثل رسالة ثورية وعملاً تغييراً واعداداً ربانياً للجماعة لكي تستأنف دورها الصالح).([38])

ولو دققنا النظر في الرسالة الثورية (سواء أكانت تغييرية أم اصلاحية) للنبوة نجد انها تتقوم بأربعة أركان، المبدأ الصالح والإسلام أولها، ووجود القائد المصلح كالنبي وأمثاله ثانيها، وتوافر الانصار المصلحون ثالثها؛ لدورهم بحماية قائد الاصلاح والدفاع عن خطه ومنهجه، ويقوم الانصار بدور مزدوج في مهمتهم، فهم الناقلون لأوامر القائد ونواهيه وتوجهاته من جانب، ونقل هموم الأُمة وآلمها وتطلعاتها من جانب اخر، لهذا يكون دورهم كسفراء في البلاغ والابلاغ، ويأتي دور البيئة الصالحة رابعاً، وهي الوسط والمحيط الاجتماعي بكل أشكاله وألوانه وعقائده وعاداته وغيرها، وتمثل البيئة الميدان التبليغي للقائد المصلح وأنصاره، ونلاحظ ان هذه البيئة متى ما كانت مهيئة لاستقبال القائد بمبدئه ورسالته وتطلعاته مع أنصاره المصلحين، متى ما كانت أرضية خصبة لإرساء دعائم الدولة بشكل أسرع، وهذا ما نلاحظه عندما ارسى رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) دعائم دولته العالمية في المدينة المنورة بوقت قصير وقياسي بعشر سنين وهو عمر قصير جداً من عمر الرسالات، ومع هذا أحدث (صلى الله عليه وآله سلم) هذا الانقلاب التغييري كمّاً وكيفاً، ونلاحظ كذلك في الوقت نفسه أن النبي استهلك وقتاً ومدة في مكة أكثر مما كان عليه في المدينة المنورة؛ ولكنه (صلى الله عليه وآله سلم)  لم يستطع ان يجني ثمار عمله وجهاده؛ لأنَّ المجتمع المكي لم يكن مهيئً ومستعداً أو قابلاً لقبول الرسالة والدعوة المحمدية، ولهذا عجز صلوات الله عليه وسلم من تأسيس دولته التوحيدية في مكة كما عجز نبي الله نوح (عليه السلام) وغيره من تأسيس دولتهم التوحيدية لتشابه البيئات المجتمعية بصدودها عن الحق، ومجابهة دعاة الحق والرسالة، والانتصار لجاهليتهم ووثنيتهم وتقاليدهم، وان قلوبهم مقفلة عن استقبال الحق والهدى، وتصديهم الدائم لأئمة الخير والرشاد ومحاربتهم بكل السبل، وعندها لا يجد النبي وسيلة لتأسيس دولة، لأنَّ الظروف الموضوعية والعوامل الضاغطة تحول دون امكانية تحقيق مثل هذه الدولة.([39])

ولهذا فإنَّ كل نبي يتمنى ويتطلع بنجاح ثروته لكي يكللها بإرساء دعائم الدولة التوحيدية قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ([40]).

وعندما انطلق الانبياء بثورتهم؛ (ليؤسسوا المجتمع الصالح الذي تظهر فيه مرة أُخرى الفضيلة والاستقامة، ويبدو واضحاً التوازن الاجتماعي وتكافؤ الفرص وذوبان كل تفاضل بين الناس وكل تمايز الا في التقوى والعمل الصالح المعطاء الذي ليس فيه أنانية ولا طمع ولا استغلال وظلم، في هذا المجتمع اضافة إِلى الحياة الكريمة والعيش الرغيد كمطلب ثانٍ، هنالك الهدف الأساس في ايجاده وهو وجود الفرصة لكل إنسان أن ينمو بفكره ونفسه صعوداً وارتقاء حتى يناطح السماء سمواً وارتفاعاً في عقله وخلقه وسلوكه والذي يحقق له ولمجتمعه امرين الاهم رضوان الله تعالى ونعيم الابد، والثاني المهم هو نعمة الله تعالى في الدنيا وبركاته)([41]).

ومن خلال النص القرآني: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}([42]).

يرى الشهيد الصدر : أن الدولة ظاهرة نبوية، ظهرت في مرحلة مبكرة من حياة البشرية، فبعد ان تجاوز الناس المرحلة التي كانت تسودها الفطرة ويوّحد بينهم فيها تصورات بدائية للحياة، تنسجم وظروفهم البسيطة واحتياجاتهم القليلة، تطورت خبراتهم الحياتية، ونمت مواهبهم، وتنوعت احتياجاتهم، واضحى اشباع هذه الحاجات غير متيسر للجميع بدرجة متكافئة، فبدأ التناقض بين القوي والضعيف، ودبّ الاختلاف في هيكل المجتمع الواحد اثر ذلك، مما ادى إِلى انشطارات متعددة في الأُمة الواحدة. فأمست الحاجة إِلى تحديد معايير تجسِّد العدل وتبين الحق، ثم نصب هذه المعايير وتطبيقها في الحياة، بغية انصاف المظلوم، وتحقيق الامن الاجتماعي، وهذا ما نهضت به الدولة، حيث ظهرت فكرة الدولة في هذه المرحلة كحاجة وضرورة (على يد الانبياء، وقام الانبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها… وظل الانبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة، كداود وسليمان وغيرهما، وقضى بعض الانبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حياة موسى (عليه السلام) واستطاع خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يتوج جهود سلفة الطاهر بإقامة انظف واطهر دولة في التاريخ، شكَّلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان، وجسَّدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً)([43]).

والدولة الصالحة هذه بقيادة نبي مرسل رباني تستقي تشريعاتها من وحي السماء وتعتمد التوحيد قاعدة لحكمها وتشريعاتها، فهي ظاهرة تجسِّد التوحيد وتستقي من معينه الذي لا ينضب، ومن كلمات الله التي لا تنفد. هذا (التركيب العقائدي للدولة الإسلامية، الذي يقوم على أساس الايمان بالله وصفاته، ويجعل الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرك الحضاري الصالح على الارض، وهو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمد الحركة الحضارية للإنسان بوقود لا ينفد)([44]) ؛ لأنَّ الله تعالى هو الهدف وصفاته منارات وادلة للمسيرة، وان السبيل إِلى الله تعالى لا يقف عند حد، وانما هو سبيل ممتد، فالإنسان المحدود لا يمكن ان يصل إِلى الله المطلق، مما يرفد المسيرة باستمرار بإمكانات متجددة للحركة والتكامل ويجعل فرص النمو في الدولة الإسلامية واسعة لا تتجمد عند نقطة محددة، وتنضب طاقتها عند مدى معين، يضاف إِلى ذلك ان عقيدة التوحيد، أو العقيدة بعبودية الإنسان لله، تعني ان الله تعالى وحده هو صاحب الحق في تنظيم منهاج حياة الإنسان؛ ولذا ينهى القرآن الكريم (على الأفراد الذي يسلِّمون زمام قيادتهم للآخرين ويمنحونهم حق الامامة في الحياة والتربية والربوبية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}([45]). فليس لفرد ولا لمجموع ان يستأثر من دون الله بالحكم، وتوجيه الحياة الاجتماعية ووضع مناهجها ودساتيرها)([46]).

وعملية الاستخلاف الرباني للجماعة البشرية على الارض والتي انابها الله للبشرية في الحكم، وقيادة الكون واعماره اجتماعياً وطبيعياً، وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله، وهذا يعني انتماء الجماعة البشرية إِلى محور واحد وهو المتسخِلف – أي الله سبحانه وتعالى- الذي استخلفها في الارض بدلاً عن كل الانتماءات الأُخرى، والايمان بسيد واحد ومالك واحد وكل ما فيه، وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام على أساسه الإسلام وحملت لواءه كل ثورات الانبياء تحت شعار ((لا اله الا الله)) {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}([47]).

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ([48])([49]).

 

المبحث الثاني: البناء الفوقاني للمجتمع التوحيدي

تناولنا في المبحث الأوَّل الأساس العقدي للمجتمع التوحيدي، وقلنا ان التوحيد هو القاعدة التي يقوم ويتقوم عليها استخلاف الإنسان في الارض، وثورة الانبياء في مسارهم الدعوي، وهدفهم في تأسيس الدولة التوحيدية والتي حلم بها الانبياء كلهم، وقد انجز نبينا الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته بعده علي (عليه السلام). ورغم قصر عمرهما الشريف في إدارتها، ولكنها كانت وستبقى مناراً وأنموذجاً حيّاً  وحقيقة عملية واقعة لا يمكن تغافلها،  لكي لا نغوص بالجانب التنظيري فقط دون الجانب العملي والتنجيزي، وعليه فلو قدر لدولة إسلامية حقيقية ان تأخذ بزمام الامور لحاكميتها المستندة إِلى عقيدة الإسلام، وتشريعاته، فسوف يقوم على اكتاف هذه الدولة بناء فوقاني يعتبر مكملاً وتطبيقاً لتطلعاتها، حتى نصل إِلى المجتمع الصالح الذي يمثل قمة الهرم في هذا البناء الفوقاني، ونبحث هنا بعض المطالب لهذا البناء توخياً للاختصار ولمتطلبات البحث.

المطلب الأوَّل: الحرية في حدود التوحيد

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}([50]).

اختلف اهل التفسير في تأويل قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} إِلى أقوال عدة منها: ما قاله بعضهم في ذلك: (أفرأيت من إتخذ دينه بهواه، فلا يهوى شيئاً الاّ ركبه، لانه لا يؤمن بالله، ولا يحرِّم ما حَرَّم، ولا يحلل ما حلل، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به)([51]).

ان المتابع لبحوث الشهيد الصدر (قدس) يستنتج ان كل مفهوم يتناوله نابع من نظريته أو نظرته المسماة (جزء من كل)، وخلاصتها: ان كل مفهوم يتناوله لا يدرسهُ دراسة تجزيئية بمفرده، بل يدرسه دراسة موضوعية، لما له ارتباط بكل المنظومة الفكرية والإسلامية الشاملة، ليجد هذا المفهوم موقعه منسجماً مع نسيج وتركيب المنظومة وجزء منها وعضواً فيها، وليس شيئاً نشازاً أو طارئاً، فيدرسه (ضمن الصيغة الإسلامية العامة التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع….. وهذه الصيغة لها أرضية خاصة بها، ويوجد المجتمع الإسلامي الكامل حين يكتسب الصيغة والارضية معاً حين يحصل على النبتة والتربة كليهما)([52]).

ومن هذه المفاهيم مفهوم الحرية التي تدرس كجزء من عقيدة التوحيد بكل ابعادها وتفاصيلها، إِذْ الحرية في الإسلام تستند إِلى عقيدة التوحيد، لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى، لتنتهي إِلى التحرر التام من كل اشكال العبودية المهينة التي تربط الإنسان بحبال الارض، وكلما اقترب الإنسان من عبودية الله مخلصاً، كلما تحرر من العبودية لغيره والتي تقيِّد عقله وتشوّه تصوره الاعتقادي، وتصيره ضحية في حياته لآلهة وأرباب شتى، تبعده عن الحق والحقيقة وتصطنع له ركام أفكار تغش بصيرته، وتطمس فطرته، وتحول بينها وبين ابصار الطريق إِلى الله تعالى، وسيكون مثل هذا الإنسان الذي يتوهم بأنه حر، وفي الحقيقة هو واقع في شرك العبودية لشهواته وهواه التي تنحط بوعيه، وتعطل عقله، وتهبط به إِلى درجة الحيوانية بميلها وشهواتها.

من هنا عندما نبحث عن مفردة الحرية وتحليل مضمونها في الإسلام سوف يؤطر بحدود التوحيد، فينبغي للإنسان ان لا يتجاوز الحدود التوحيدية ولوازمها التشريعية من جانب، وان لا تتعارض حريته مع سلب حرية الآخرين ومصادرتها، أو عدم الاعتراف بها، من هذا المنطلق جاءت النصوص القرآنية مبيِّنة على منح الله تعالى للإنسان الحرية الواسعة، وسمح لها بالتصرف كما يشاء، بل سخَّر الموجودات في الطبيعة لإشباع حاجاته بالشكل الذي يمنحه حرية استعمال كل ما في الارض لتحقيق أغراضه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}([53]).

وفي هذا الخلق لما في الارض جميعاً، والسموات كذلك، إِذْ يجعل الله الكون بأسره في دائرة اختيار الإنسان وتصرفه من خلال هذا المنطق القرآني نلاحظ ان الحرية الإسلامية تختلف عن الحرية في الحضارات الغربية (إِذْ الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إِلى الوان العبودية والاغلال، اما الحرية في الإسلام فعلى العكس، فهي حرية رحيبة تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى، لتنتهي إِلى التحرر من كل اشكال العبودية المهينة: {تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}([54])، أرأيت كيف يقيم القرآن التحرر من كل العبوديات على أساس الاقرار بالعبودية المخلصة لله؟! أرأيت كيف يجعل من علاقة الإنسان بربه الأساس المتين الثابت لتحرره في علاقاته مع سائر الناس ومع كل أشياء الكون والطبيعة)([55]).

هذا هو الأساس التوحيدي الذي تنطلق الحرية منه، إِذْ التوحيد هو أساس وغاية النظام الاجتماعي، ومن هنا نزوع هذا النظام إِلى تحرير الإنسان من استلاب الانظمة الإسلامية والسياسية، التي يكون الإنسان فيها مقطوع العلاقة بالله، ومجرّد وسيلة ضمن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وبهذا الصدد يقول الشهيد الصدر (قدس): (ان الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً، وهذه الحقيقة الكبرى تعتبر اعظم ثورة شنّها الانبياء، ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وتعني هذه الحقيقة ان الإنسان حر، ولا سيادة لإنسان اخر أو لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه، وانما السيادة لله وحده، وبهذا يوضع حد نهائي لكل انواع التحكم واشكال الاستغلال، وسيطرة الإنسان على الإنسان. وهذه السيادة لله تعالى التي دعا اليها الانبياء تحت شعار (لا اله الا الله)، تختلف اختلافاً أساسياً عن الحق الالهي الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين، فإنَّ هؤلاء وضعوا السيادة اسمياً لله لكي يحتكروها واقعياً، وينصبوا انفسهم خلفاء لله على الارض)([56]).

وبناءً على هذا الفهم من الشهيد الصدر (قدس)، والذي يؤكد فيه أن: التوحيد هو أساس وغاية النظام الإسلامي، إِذْ النظام الاجتماعي- السياسي في الإسلام مؤسس على مبدأ خلافة الإنسان التي ترجع الإنسان إِلى مكانته الكونية، ومن هنا يتجه هذا النظام الإسلامي إِلى انشاء حضارة تلغي الاستقطاب الاحادي وتنفي أسس الاستكبار وعوامله، وما يتبعه من الاستعلاء على الحضارات الأُخرى([57]).

ويكتب الشهيد الصدر عن تحرر الإنسان من كل الاغلال التي تشده وتجذبه إِلى الارض بقوله: (ان الطريقة التي استعان بها القرآن على انتشال الإنسانية من ربقة الشهوات وعبوديات اللذة، هي الطريقة العامة التي يستعملها الإسلام دائماً في تربية الإنسانية في كل المجالات: طريقة التوحيد، فالإسلام حين يحرر الإنسان من عبودية الارض ولذائذها الخاطفة، يربطه بالسماء وجنانها ومثلها، ورضوان من الله؛ لأنَّ التوحيد عند الإسلام هو سند الإنسانية في تحررها الداخلي من كل العبوديات، كما انه سند التحرر الإنساني في كل المجالات…)([58]).

وأما دعوى ان الإسلام يحبس العقل البشري في زاوية معينة، ويقيِّد تفكير الإنسان ويحدده فمردودة؛ لأنَّ الإسلام دين العقل، وأول ما خلق الله تعالى هو العقل الذي به يُثاب الإنسان وبه يعاقب، والقرآن يصدح بآياته في ذلك، ويريد من العقل الانطلاق ليس في الارض فقط، بل عليه ان يسبح في الافاق كذلك، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ([59])، وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ([60])، واي تحرر اكثر من هذا عندما يتحدى الله تعالى عقول البشر، ويريد منها أن تتحرر وتكسِّر اغلال القيود التي حبست العقل عن التفكير بآيات الله وافاقه السماوية والأرضية وما فيها من عجائب وخلائق واسرار، وان يفكروا كذلك في افاق انفسهم ايضاً، وكيف كانت حالة الشعوب والامم وكيف ان حضارات سادت ثم بادت، مضافاً إِلى التفكير في اسرار النفس وخباياها واسرارها تحتاج إِلى عقل سليم متحرر من اغلال الخرافات والأوهام والتقليد، ويرى الشهيد الصدر ان تحرير فكر الإنسان لا يتم ما لم (ينشئ في الإنسان العقل الاستدلالي، أو البرهاني الذي لا يتقبل فكرة دون تمحيص، ولا يؤمن بعقيدة ما لم تحصل على برهان، ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرية الفكرية وعاصماً للإنسان من التفريط بها، بدافع تقليد أو تعصب أو خرافة…. وهذا معطًى مباشر للقاعدة الفكرية التي يتبناها الإسلام)([61]).

من هنا ارتبطت مفردة الحرية وهي جزء من كل النظام التوحيدي الذي يربط الكون برب واحد، ويسمح للإسلام للفكر ان ينطلق ويعلن عن نفسه، ما لم يتمرد على قاعدته الفكرية التي هي الأساس الحقيقي لتوفير الحرية في نظر الإسلام،  وبهذا يتضح ان مفهوم الحرية المنبثق عن عقيدة التوحيد،  والمنطلق من دعائم الدولة الإسلامية يضع تحت تصرف الإنسان الكون باسره، ويتيح له التعبير الحر عن أفكاره، والاختيار المرن في التعبير عن ارادته ومواقفه، فإنه بعد أن يطهر نفسه ووجدانه من العبودية لغير الله، يحظى بأعمق اشكال الحرية.

ويقول الشهيد الصدر في تلخيص مفردة الحرية: (يبدأ الإسلام عمليته في تحرير الإنسانية من المحتوى الداخلي للإنسان نفسه؛ لأنه يرى ان منح الإنسان الحرية ليس ان يقال له: هذا هو الطريق قد اخليناه لك فسر بسلام، وانما يصبح الإنسان حراً حقيقية، حين يستطيع ان يتحكم في طريقه، ويحتفظ لإنسانيته بالرأي في تحديد الطريق ورسم معالمه واتجاهاته. وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من عبودية الشهوات التي تعتلج في نفسه؛ لتصبح الشهوات اداة تنبيه للإنسان إِلى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخر ارادة الإنسان دون ان يملك بإزائها حولاً أو طولاً؛ لأنها اذا اصبحت كذلك خسر الإنسان حريته منذ بداية الطريق. ولا يغيِّر من الواقع شيئاً أن تكون يداه طليقتين ما دام عقله وكل معانيه الإنسانية التي تميِّزه عن مملكة الحيوان معتقلة ومجمدة عن العمل)([62]).

وقد تنبأ الشهيد الصدر في ستينيات القرن الماضي وقد نقد الاتجاه المادي في الرأسمالية التي تبجحت بديمقراطيتها عندما أعلنت الحريات الاربع: السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية، إِذْ قامت الديمقراطية الرأسمالية على الايمان بالفرد ايماناً لاحدّ له. وبان مصالحه الخاصة بنفسها تكفل –بصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين… وأن فكرة الدولة انما تستهدف حماية الافراد ومصالحهم الخاصة، فلا يجوز لها ان تتعدى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها، هكذا صورت الرأسمالية بنظرتها المادية عن الحياة وقد ابعدت الأخلاق من قاموسها وها هي اليوم تلاحقها الكوارث الاجتماعية وتقف على جرف هار، فقد قال الشهيد الصدر (قدس): (وكان من جرّاء هذه المادية التي زخر النظام الرأسمالي بروحها أن أقصيت الأخلاق من الحساب، ولم يُلحظ لها وجودُّ في ذلك النظام، أو بالأحرى تبدلت مفاهيمها ومقاييسها، وأعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى، والحريات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة. فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجَّ به العالم الحديث من محن وكوارث، ومآسي ومصائب)([63]).

المطلب الثاني: التنمية في ظل التوحيد

تعد التنمية شرطاً ثانياً (بعد الحرية التي بحثناها آنفاً)، للدولة التوحيدية ومنطلقاً عنها، والتنمية مفردة عامة في كل دول العالم ونريد بحثها وفق قاعدة عامة، وتجربة إنسانية ونقول: ان أية تجربة إنسانية سواء أكانت ناجحة ام فاشلة أم متلكئة، لا يمكن استنساخها بايجابياتها أو سلبياتها في بيئة المنشأ، لنقلها واستنساخها إِلى بيئة أُخرى؛ لأنَّ كل بلد وبيئة له ظروفه الموضوعية وعوامله الضاغطة والتي تتناسب مع ظروف محيطه، نعم، من الممكن تكييف التجارب الإنسانية وفق متطلبات بيئية أُخرى ان توافرت ظروفها ومناخاتها والعوامل الأُخرى لتكون مقاربة ومتقاربة مع البيئة الاصلية، ونذكر مثلين من واقعنا المعاصر صعب استنساخهما، وان لم يكن الأمر مستحيلاً على بلد كالعراق:

الأوَّل: انتصار الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس) في عام 1979م، على نظام فرعوني ملكي، والثاني: سقوط أو اسقاط حكومة البعث الصليبي في العراق عام 2003م، واستبدال نظام حزب البعث الشمولي بما يسمى بالنظام الديمقراطي في العراق، وكلا التجربتين لا يمكن استنساخهما في العراق بشكل كامل؛ لاختلاف الظروف والعوامل الضاغطة والتي تحول من دون استنساخ هاتين التجربتين.

نأتي لنبحث مطلب التنمية في ظل الدولة التوحيدية لنقول: ليست التنمية عملية محايدة قابلة للتنفيذ في كل بيئة عبر أطر ومضامين واحدة، وإنما كشفت التجارب التنموية، والنتائج التي انتهت اليها: ان التنمية بطبيعتها غير قابلة للنقل حرفياً، كما تؤيد ذلك مبادئ علم الانثروبولوجيا Anthroplogy([64]) التي تنص على ان المركبات الحضارية لا يمكن ان تستنخ وتُنقل من بيئة إِلى أُخرى كما هي، وهذا يفسر لنا سر الاخفاقات لمشاريع التنمية المقلِدة للنموذج الغربي في بلدان اسيا وافريقا وأمريكا الجنوبية، فإن النموذج الغربي غير قابل للتكرير بنفس الصورة التي ولد وتطور فيها في أوربا؛ لأنَّ هذا النموذج نشأ في سياق ظروف تاريخية ومناخ ثقافي خاص لا يمكن ان يتكرر خارج اوربا، ومن هذه الظروف الهيمنة على قارات اسيا وافريقا والأمريكيتين، وانتهاب ثرواتها بلا مقابل عبر احتلالها واستعمارها، وتراكم ريع هذه الثروات بمعدلات عالية جداً، ووفرة العمالة والخامات الخاصة والرخيصة، ووجود اسواق كثيرة للسلع الاوربية في تلك القارات بلا منافسة، والتحكم في هذه الاسواق وتنمية نزعة الاستهلاك لدى سكانها بما يضمن عوائد وفيرة من الارباح، هذا فضلا عن تدمير المنتج المحلي وسحق الزراعة والتجارة والسياحة وغيرها، ليتحول بلد كالعراق مثلاً إِلى بلد استهلاكي بامتياز كالبلدان الخليجية بل اسوء منها، هذا بالاضافة إِلى ان النموذج الغربي للتنمية يعكس البيئة الاوربية وما تتميز من نسق تاريخي ورؤية خاصة للإنسان والعالم تريد تسويقها لبلداننا لسحق اقتصادنا، وتذويب هويتنا، وطمس حضارتنا([65]).

من هنا يتبين ما يقوله الشهيد الصدر عن نجاح التجارب الاوربية كمثال بقوله: (ان مناهج الاقتصاد الاوربي كإطارات لعملية التنمية لم تسجل نجاحها الباهر على المستوى المادي في تاريخ أوربا الحديث الا بسبب تفاعل الشعوب الاوربية مع تلك المناهج وحركتها في كل حقول الحياة، وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي اللامتناهي خلال تاريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل)([66]).

وفي هذا السياق يجب ان نختار بدائل لإطارات التنمية الغربية تتسق وتتكيف مع بيئتنا المحلية ونسق تاريخنا، وثقافتنا، ورؤيتنا الخاصة للإنسان والعالم، وهو ما يتمثل بمنهج الاقتصاد التوحيدي، القائم على أسس عقدية، ومفاهيم إسلامية منسجمة مع الفطرة من جهة، ومع الواقع من جهة أُخرى، مثل هذا المنهج يُشكل إطاراً صالحاً للتنمية في العالم الإسلامي؛ لأنه المنهج الوحيد الذي ينبع من التوحيد، ويجسَّد العدالة الاجتماعية، وينسجم مع الذاكرة التاريخية للامة ليحفِّزها؛ ولكي تتفاعل معه، وهذا ما يؤكده الشهيد الصدر بقوله: (فحين نريد ان نختار منهجاً أو إطاراً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الإسلامي، يجب ان نأخذ هذهِ الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحرير الأُمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها ضد التخلّف، ولا بُد حينئذ ان نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأُمة ونفسيتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة…. ومن الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذي يدرسون اقتصاد البلاد المتخلِّفة وينقلون اليها المناهج الاوربية للتنمية دون ان يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ومدى قدرة هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأُمة)([67]).

ويوضح الشهيد الصدر نفور الأُمة التي يؤطر اقتصادها بالمنهج الغربي بما تحمله رواسب عن جور الغرب وقتله واستعماره واستبداده ونهبه لبلداننا فلا تتقبل مثل هكذا منهج مؤطر يحمل عذابات الماضي ومآسيه، والتحايل والتآمر على الحاضر والمستقبل، ولهذا تهفو إِلى منهج يقول عنه الشهيد الصدر: (إنه منهج مرتبط في ذهن الأُمة بتاريخها وامجادها الذاتية ويعبِّر عن اصالتها ولا يحمل أي طابع لبلاد المستعمرين، فان شعور الأُمة بان الإسلام هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التاريخية ومفتاح امجادها السابقة يعتبر عاملاً ضخماً جداً لإنجاح المعركة ضد التخلف ، وفي سبيل التنمية إِذَا استمدَّ لها المنهج من الإسلام واتخذ من النظام الإسلامي إطاراً للانطلاق)([68]).

إن استئصال التخلف يستوجب وضع خريطة طريق يُبحث من خلالها تحديد الاولويات في الخطة التنموية هذه، وان استئصال التخلف يعتمد على ركنين أساسين هما:-

اولاً: استثمار الطبيعة والوصول إِلى افضل الاساليب لتسخيرها واستغلال مواردها في الإنتاج الزراعي والصناعي، واستعمال صيغ الإدارة والتنظيم الحديثة الملائمة، والافادة من تجارب الآخرين الناجعة وتكييفها وفق متطلبات الخطط والاهداف.

وثانياً: ايمان الإنسان وقناعته بالخطة التنموية المعدّة والمدروسة، وعليه ان يتغلب على هواجسه وشكوكه وتذليل مقاومته وتمرده وعدم تفاعله مع خطة التنمية؛ لكي يكون تأثيره ايجابياً ومنتجاً.

ومن الواضح ان الركن الأوَّل يتكفل به خبراء علم الاقتصاد والاجتماع، فإن مصممي خطة التنمية لا بد ان يكونوا من ذوي الخبرة العلمية والاختصاص والتأهيل الاكاديمي الحديث، ولم يدَّعِ أحد من الإسلاميين المستنيرين أنه يضع نفسه أو يضع توجهات الفقه بديلاً عن التخطيط العلمي المبني على خبرة تخصصية. بيد ان خطط التنمية في عالمنا اهملت الركن الثاني في العملية التنموية، اخفقت غير مرة وانتهت إِلى تنمية التخلف، ولم تقدر على الخروج من المدار المسدود الذي ظلت تدور في داخله. بينما اعتمدت التنمية في الإسلام على الركنين معاً، في الوقت نفسه الذي اوكلت فيه بناء الركن الأوَّل إِلى الخبراء المختصين، عملت على تعبئة الإنسان وإعداده إعداداً خاصاً ليفجر طاقاته، ويجند كل قواه في معركة البناء والتنمية، وهذا يعني تجلي التوحيد مرة أُخرى كطاقة متوهجة تجند كل إمكانات الإنسان في المعركة ضد التخلف، وتؤمن لعملية التنمية مقومها الأساسي، فإن التوحيد لا يمكن ان يؤدي – كما يتوهم- إِلى: (موقف سلبي تجاه الارض وما فيها من ثروات وخيرات يتمثل في الزهد أو القناعة أو الكسل اذا فصلت الارض عن السماء، واما اذا لبست الارض إطار السماء وأعطي العمل مع مدلول الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إِلى طاقة محرّكة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي ورفع مستوى الحياة)([69]).

وقد تناول الشهيد الصدر موقع عقيدة التوحيد كمفهوم حيوي وأساس في عملية التنمية في العديد من بحوثه ونظرياته([70]).

المطلب الثالث: العدل الاجتماعي من قيم التوحيد

من الواضح ان العدل اصل من اصول الدين، وهو فرع عن التوحيد، وهو صفة من صفات الله تعالى، فيكون داخلاً في التوحيد مثل بقية الصفات كالعلم والقدرة والارادة وغيرها، ولا توجد ميزة عقدية في العدل تقتضي افراده وتمييزه عن الصفات الأُخرى كأصل من أصول الدين، (ولكن الميزة هنا اجتماعية، وميزة القدوة؛ لأنَّ العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية، وتغني المسيرة الاجتماعية، والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة اليها اكثر من أي صفة أُخرى، ابرزها العدل كأصل ثانٍ من اصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة….، لهذا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إِلى توجيه المسيرة البشرية، ولأجل ذلك أفرز، والاّ فإنَّ العدل في الحقيقة داخل في إطار التوحيد العام، وفي إطار المثل الأعلى)([71]).

إنَّ ترتيب اصول الدين بهذه الكيفية (توحيد، عدل، نبوة، امامة، معاد) يُبتنى بوجه من الوجوه على أساس ما لهذه الاصول من مضمون اجتماعي واتصال بالحياة الإنسانية ويشير الشهيد الصدر إِلى هذا بقوله: (وينبغي ان نشير هنا إِلى ان العدل الذي قامت على أساسه مسؤوليات الجماعة في خلافتها العامة هو الوجه الاجتماعي للعدل الالهي الذي نادى به الانبياء، وأكدّت عليه رساله السماء كأصل ثانٍ من أصول الدين يتلو التوحيد مباشرة)([72]).

ويعلل الشهيد الصدر بإفراز العدل عن التوحيد، على الرغم من تفرعه عنه، بقوله: (ولم يكن الاهتمام على هذا المستوى بالعدل الإلهي وتمييزه كأصل مستقل للدين من بين سائر صفات الله- من علم وقدرة وسمع وبصر وغير ذلك- الا لما لهذا الاصل من مدلول اجتماعي وارتباط عميق، بمغزى الثورة التي يمارسها الانبياء على صعيد الواقع، فالتوحيد يعني اجتماعياً: ان المالك هو الله دون غيره من الالهة المزيفة، والعدل يعني: ان هذا المالك الوحيد بحكم عدله لا يؤثر فرداً على فرد، ولا يمنح حقاً لفئة على حساب فئة، بل يستخلف الجماعة الصالحة ككل على ما وفرَّ من نعم وثروات)([73]).

وقد احتل العدل الاصل الثاني من اصول الدين وتموضع بعد التوحيد؛ لأنه الأساس بكل القيم الخيرة كما يقول الصدر (قدس): (لم يكن من الصدفة ان يوضع العدل اصلاً ثانياً من اصول الدين…. وإنما كان تأكيداً على اهم صفات الله تعالى في مدلوله العملي ودوره في توجيه المسيرة الإنسانية، وذلك لأنَّ العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط ، هو الشرط الأساسي لنمو كل القيم الأُخرى، وبدون العدل والقسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرك تلك القيم وبروز الامكانات الخيرة)([74]).

والعدل الاجتماعي المنبثق عن بناء الدولة التوحيدية والتي نادى بها الانبياء والمصلحون على طول المسار التاريخي، ويُعدّ هدفاً مركزياً بنظر الإسلام ويسعى لتحقيقه في الارض، وجند لأجله كل الطاقات، وارخص في سبيله سفك الدماء وتقديم الشهداء، ولم يدّخر من دون اقامته أي شيء، يضاف إِلى ذلك ان هذا العدل لم يطلقه الإسلام كشعار خال من المحتوى، في صيغة مقننة رسم فيها صورة تفصيلية واضحة للحياة الاجتماعية التي تجسّد العدالة، وقد لخص الشهيد الصدر الصورة الإسلامية لتحقيق العدالة الاجتماعية بمبدأين عامين بقوله: (لكل منهما خطوطه وتفصيلاته: أحدهما: مبدأ التكافل العام، والآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي، وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي تحقق القيم الاجتماعية العادلة، ويوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعية)([75]).

وإنَّ مجتمع العدالة الذي يريد ان يشيده الإسلام ويصبو اليه ليكون مائزاً وعلامة فارقة بين المجتمع التوحيدي وبين المجتمعات الأُخرى التي تدعي اقامة القسط والعدل بينما يعج الظلم والفساد في مجتمعاتها البشرية.

كما تسعى الدولة التوحيدية في الوقت نفسه إِلى اشاعة العدل والاحسان بين الناس، ونشر المعروف والاصلاح بينهم، ورعاية الحرمات والكرامات الإنسانية، وايجاد التوازن في العلاقات الاجتماعية والإنسانية والطبيعية، من اجل الوصول إِلى الكمالات الالهية([76]).

هذا وان المحتوى الحقيقي للشرائع الالهية هو لاقامة القسط والعدل، وتنظيم العلاقات السابقة، ولكن هذه العلائق قد تتعرض لمشكلة الاختلاف بسبب تضارب المصالح والمنافع بين الناس وارادتهم ورغباتهم، فكان ايجاد التوازن في هذه العلاقة هدفاً من اهداف الشريعة الإسلامية، ومبدأ من مبادئ الرسالة الإسلامية، وتم تأكيد مبدأ القسط والعدل في العديد من آيات الله تعالى ومنها: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)([77]) ومنها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)([78]).

المطلب الرابع: مسار التاريخ في خط التوحيد

يعد هذا المطلب نهاية المسار البحثي والذي يتطلع فيه الشهيد الصدر إِلى مسار حركة التاريخ والتي تمثل حركة غائية لا سببية فقط، حركة ليست مشدودة إِلى سببها وماضيها، بل هي مشدودة إِلى غايتها وهدفها وهي متطلعة إِلى المستقبل، فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية، وما دام المستقبل معدوماً فعلاً وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل، إِذْ يعد الوجود الذهني الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ، هذا الوجود الذهني يجسِّد الجانب الفكري الذي يضم تصورات الهدف من جانب، ويمثل الطاقة والارادة التي تحفز الإنسان نحو الهدف وتنشطه للتحرك نحو تحقيقه من جانب اخر، هذا الوجود الذهني يعبِّر في جانب منه عن الفكر، وفي جانب اخر عن الارادة، وبالامتزاج بين الفكر والارادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على  الساحة الاجتماعية([79]).

بهذه النظرة الفلسفية يستشرف الشهيد الصدر نظرته للمستقبل ولحركة مسار التاريخ، إِذْ يبين ان نظرة الإسلام إِلى التاريخ وحركته من حيث هو تجسيد لخلافة الإنسان لله في الارض، وهي نظرة تتناقض تناقضاً جذرياً مع كل النظريات الفلسفية للتاريخ من هيجل وماركس وفوكوياما صاحب مقولة نهاية التاريخ، حيث يرى الشهيد الصدر ان خلافة الإنسان لله في الارض تفتح الباب لصيرورة نحو المطلق والتوحيد، وهو الله تعالى، بينما النظرة الفلسفية لهؤلاء الماديين محاولة تقوم من الناحية المنهجية والمعرفية والعقائدية نحو الشرك، وباختصار ان النظرة الغربية للتفسير المادي للتاريخ تفصل بين وجود الإنسان عن الله تعالى، بينما النظرة الإسلامية تربط بين الإنسان والله تعالى، ومعنى هذا ان هناك مشروعين للحضارة: المشروع الغربي والمشروع الإسلامي([80]).

وإِذَا كانت مقولة تفوق الحضارة في فلسفة التاريخ ذي النمط الغربي مبتورة الصلة بالماضي، فهي كذلك مبتورة الصلة بالمستقبل؛ لأنَّ النظر إِلى النموذج الليبراني أو الاشتراكي من موقع الافاق المستقبلية يؤدي إِلى نتيجة حتمية هي: عدم وجود قوة ذاتية تؤهل هذين النموذجين للاستمرار ولريادة العالم وقيادته([81]).

وإِذَا كان انهيار المعسكر الاشتراكي وفلسفته قد أصبح حقيقة واقعة وشيء من الماضي، فان نهاية التاريخ الذي يتبجح بها فرنسيس فوكوياما بادعائه: ان الديمقراطية الليبرالية اصبحت تمثل منتهى تطور الايديولوجيات والانظمة السياسية، فهي معنى التاريخ([82]).

وان مقولة نهاية التاريخ، سوف تتحطم عندما تصطدم مع الحقيقة والواقع، وقد بدت بوادر انهيار الديمقراطية الليبرالية لوقوفها بالضد من نظرية التوحيد من جانب ولتناقضها مع متطلبات الواقع من جهة أُخرى، ومن خلال فكر الصدر يمكننا القول:

بأنَّ انهيار الشيوعية- وهو انهيار توقعه الصدر وتوقعه كل المفكرين المسلمين لما كانت الشيوعية في أوجها – لا يعني عند الصدر أن الديمقراطية الليبرالية هي منتهى تطور الايديولوجيا؛ لأنَّ الديمقراطية الليبرالية تنتمي إِلى الرؤية الغربية عن الكون والإنسان، شأنها شأن الشيوعية، ومن هنا فان انهيار الشيوعية- في أفق نظرية الصدر- انهيار الانموذج الغربي كله من حيث هو نموذج وضعي منفصل عن الله([83]).

وفي ضوء المنظور القرآني الذي يعتمده الشهيد مرجعاً لأفكاره واستنباطه وعلى ضوء ذلك يفسر الحركة التاريخية، ويرى ان المحتوى الداخلي للإنسان يشكل الركيزة الأساس لحركة التاريخ، اما البناء الاجتماعي العلوي أو الفوقاني، وما يسود في المجتمع من علاقات ومؤسسات وفعاليات متنوعة، فيرتبط بالمحتوى الداخلي الذي يكون بمثابة القاعدة التي تشاد عليها تمام البنى الفوقية في الحياة الاجتماعية. وان اعادة بناء الإنسان من خلال بناء محتواه الداخلي سيؤثر سلباً أو ايجاباً على تغيير وتطور المجتمع، فاذا تغير الأساس تغيرت البنى، وإِذَا بقي الأساس ساكناً لم تتغير تلك البنى، وهذا ما يستظهره الشهيد الصدر من القرآن وما يحتويه من سنن تاريخية متعددة، وتأتي سنة التغيير واحدة من تلك السنن، ومنها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ([84]). فان هذه الآية المباركة تبين نوعين من التغيير، يرتبط أحدهما بالآخر.

الأوَّل: هو تغيير ما بالقوم، بمعنى احوال القوم وشؤونهم، والظواهر الاجتماعية في حياتهم.

والثاني: تغيير ما بالانفس، بمعنى تغيير المحتوى النفسي الداخلي للامة كأمة، من حيث هي جماعة، لا لهذا الفرد أو ذلك، ويرى الشهيد الصدر (قدس): أن التغيير الثاني هو العلة للتغيير الأوَّل، وهو الأساس لعملية التغيير والتطور الاجتماعي. لذلك سمي عملية بناء المحتوى الداخلي اذا اتجهت اتجاهاً صالحاً بـ (الجهاد الأكبر) وهو الذي سيحدد مسار الأُمة في حاضرها ومستقبلها، بينما سمّى البناء الخارجي اذا إتجهت إتجاهاً صحيحاً بـ (الجهاد الأصغر)([85]).

وقد عبرت الروايات عن الجهاد الأكبر بجهاد النفس، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث بسرية فلما رجعوا قال: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر)، قيل يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: (جهاد النفس)([86]).

ويتساءل الشهيد الصدر عن الأساس في بناء المحتوى الداخلي للإنسان، والمحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية، فيجيب: أن المحور هو توافر المثل الأعلى، فَإن: (المحتوى الداخلي للإنسان يجسد الغايات التي تحرَّك التاريخ، يجسّدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير، وهذه الغايات التي تحرِّك التاريخ يحِّددها المثل الأعلى…. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي، فالغايات محركات للتاريخ ونتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان، وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود اليه كل تلك الاهداف. فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً، تكون الغايات صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة ايضاً)([87]).

فالمثل الأعلى هو نقطة الشروع في صنع المحتوى الداخلي للإنسان، وهو الذي يحدد مسار التاريخ للبشرية، وهذا المثل الأعلى يتحدد في إطار رؤية كونية عامة عن الحياة والإنسان والكون، وعلى أساس المثل الأعلى تختلف الحركات التاريخية بعضها عن بعض، فان اختيار أية جماعة بشرية لمثلها الأعلى يعني اختيارها لمسارها التاريخي وتجربتها التاريخية بكل ما يكتنفها من إرهاصات وما تتعرض له من منعطفات. فتاريخ أي أمة يصنعها مثلها الأعلى، والتمايز في النسق التاريخي لأُمة معينة عن بقية الأمم يعود إِلى طبيعة المثل الأعلى الذي اختارته وجعلته هدفاً لمسارها([88]).

ويرى الشهيد الصدر ان ما نصطلح عليه المثل الأعلى هو اصطلاح قرآني وتعبير ديني يعبَّر عنه في جملة من الحالات اسم الاله، باعتبار أن المثل الأعلى هو الآمر المطاع الموجِّه، وهذه صفات يراها القرآن للإله، ولهذا يعبِّر عن كل من يكون مثلاً أعلى، كل ما يحتل هذا المركز، المثل الأعلى يعبَّر عنه بالإله، لأنه هو الذي يصنع مسار التاريخ، حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)([89]). عبَّر حتى عن الهوى بأنه إله حينما يتصاعد الهوى تصاعداً مصطنعاً فيصبح هو المثل الأعلى، وهو الغاية القصوى لهذا الفرد أو ذاك، فالمُثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي الهة في الحقيقة؛ لأنها معبودة وناهية وآمرة ومحركة حقاً، فهي الهة في المفهوم الديني والاجتماعي([90]).

 

المبحث الثالث: مقومات المجتمع الصالح

تعد مرحلة البناء والتغيير والوصول إِلى مجتمع صالح غاية الانبياء (عليهم السلام)، ونهاية مشوارهم في طريقهم الصعب المستصعب، ومن سار في مسارهم التاريخي وفي دربهم اللاحب الذي لا يسلكه الاّ نبي، أو وصي نبي، أو رجل امتحن الله قلبه للإيمان، والوصول إِلى هذا المجتمع الصالح هو مقدمة ووسيلة للعبودية لله تعالى، ولم تأتِ هذه المرحلة الاّ بعد جهد جهيد، وجهاد طويل مع النفس وأهوائها، ومع كل الاغراءات والتحديات والفتن الخارجية، والتغلب عليها، ومن ثم يأتي الوعد الالهي الذي وعده الله لعباده الصالحين بوراثة الارض واستخلافها، ونبحث هذا بمطلب:

المطلب الأوَّل: المثل الأعلى منطلق لبناء الإنسان

اهتم الشهيد الصدر (قدس) بالمثل الأعلى؛ لكونه المحرك الأساس لحركة التاريخ ومساره، وهو الذي تتبناه الجماعات البشرية في مسارها، ولأهمية هذا العنوان أفرد الصدر الشهيد عنوان المطلب، وقسمَّه إِلى ثلاثة اقسام نذكرها بإقتضاب.

القسم الأوَّل: المثل الأعلى التكراري

وهو الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه، وينتزع من واقع الجماعة البشرية وما يكتنفها من ظروف وملابسات، وان الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل لهذا المثل لم يستطع أن يرتفع على هذا الواقع وتجاوزه، بل انتزع مَثَلَهُ الأعلى هذا الواقع بحدوده وقيوده وشؤونه، وهذا المثل يعمل على تجميد الواقع وحمله على المستقبل، وتحويل هذا الواقع من أمر محدود إِلى أمر مطلق، فتكون حركة التاريخ حركة تكريرية، ويكون المستقبل فيها هو الحاضر، والحاضر فيها هو الماضي، فيتجمد الواقع وتتوقف حركة التاريخ، ويطلق الشهيد الصدر على مثل هذا المثل، بالمثل الاعلى المنخفض، وتبني الأمة لهذا المثل يعود لسببين. الأول: الأُلفة والعادة والخمول، وهذا يؤدي الى تجميد المجتمع والذي سيصنع بدوره آلهة من واقعه. قال تعالى: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}([91]). والثاني: التسلط الفرعوني في مواجهة الانبياء وعدم قبول دعواتهم على مر التاريخ([92]).

القسم الثاني: المثل الأعلى المحدود

وهو المثل الذي يخطو خطوة واحدة إِلى الامام والى المستقبل، وهو الذي يُنتزع في تصور ذهني محدود للمستقبل، فهو ليس تعبيراً تكريرياً عن الواقع، بل تطلع نحو المستقبل؛ لكنه تطلع محدود، بيد أنه يحوِّل هذا التصور الذهني المحدود إِلى مطلق، مما يتيح للاُّمة حركة لكنها حركة محدودة؛ لأنها عندما تستنفد مدياتها القصوى لهذا المثل تتوقف مسيرتها وحركتها، عندما (يتحول هذا المثل نفسه إلى قيد للمسيرة، إِلى عائق عن التطور، إِلى مجمِّد لحركة الإنسان، لأنه اصبح مثلاً، أصبح إلهاً، أصبح ديناً، أصبح واقعاً قائماً، وحينئذ سوف يكون بنفسه عقبة امام استمرار زحف الإنسان نحو كماله الحقيقي)([93]).

هذا المثل المحدود يعمم خطأً ويحول من محدود الى مطلق، مرة يكون التعميم أفقياً وأخرى زمنياً، وكلا التعميمين خاطئين، الاول جعل الحرية هدفاً ومثلاً أعلى، وهو مجرد إطار بلا محتوى، والثاني جعل العشيرة مثلاً أعلى ولا يجوز أن تتحول إلى مطلق؛ لأنَّ المطلق هو الله تعالى([94]).

القسم الثالث: المثل الأعلى المطلق

بعد ان تبين في القسمين الأوَّل والثاني عدم تحقق المثل الأعلى لمحدوديته وقصوره؛ لكي يكون المثل الأعلى لقيادة المسيرة البشرية عبر التاريخ، لم يبق الا المثل الأعلى الحقيقي وهو الله تعالى والسير نحوه بسلم ارتقائي وتصاعدي وتكاملي: {يَا أَيُّهَا الْإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}([95]).

وعن هذا المثل المطلق يقول الشهيد الصدر (قدس): (وبحكم ان الله سبحانه وتعالى هو المطلق، إذن الطريق لا ينتهي، هذا الطريق طريق الإنسان إِلى الله هو إقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو الله، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نسبياً، يبقى مجرد خطوات على الطريق، من دون ان يجتاز هذا الطريق؛ لأنَّ المحدود لا يصل إِلى المطلق، الكائن المتناهي لا يمكن أن يصل إِلى اللامتناهي، فالفسحة الممتدة بين الإنسان وبين المثل الأعلى فسحة لا متناهية، أي انه ترك له مجال الابداع إِلى اللانهاية، مجال التطور التكاملي إِلى اللانهاية، باعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي)([96]).

والحركة نحو المطلق عندما تتبناها البشرية فهي تسير نحو الكمال والتسامي والتقدم باستمرار، وتتحول مسيرتها إِلى منجزات ما دامت تواصل طريقها نحو الله المطلق بقدرته المطلقة، وعلمه المطلق، وعدله المطلق، فيسير الإنسان بحزمة من نور الله مقيدة، لكن المثل الأعلى مطلق بنوره على خلقه ومخلوقاته.

وينتهي الصراع بين مسارين أحدهما: يمثل مسار المثل المصطنعة والمنخفضة، والآخر: يمثل مسار المثل الأعلى والمطلق، وقد عهد الله تعالى إِلى عباده بنصرتهم وهم ينتصرون للمثل الأعلى ويجسِّدون ارادته في الارض، ليحققوا عدله وقسطه في المجتمع التوحيدي، وان أفضل من جسَّد المسير نحو المثل المطلق هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي قال الله عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} ([97]).

وعلينا التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وان نكون معه ولا نختلف عنه، ان كنا نريد الله واليوم الآخر ونرجو ثواب الله ورحمته في الاخرة ولا نرغب بانفسنا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وان نكون معه حيث يكون صلوات الله وسلامه عليه، ملتزمين بأقواله وأفعاله وتقريراته([98]).

المطلب الثاني: نهاية المسار التاريخي

ان كتابات الشهيد الصدر (قدس) عن الفلسفة الوضعية والتي تتحدث عن نهاية التاريخ ويقصد به: التاريخ المؤسس على الأنموذج الحضاري الغربي، فهو نهاية تاريخ معين، لا نهاية التاريخ، لأنَّ التاريخ سيبدأ بداية فصل جديد متمثلاً بدخول النموذج الحضاري الإسلامي في مسرح التاريخ لقيادة البشرية، أي دخول نظرية المعرفة المبنية على ثلاث مقومات بعلاقة مترابطة وهي: العقل، والواقع، والوحي لقيادة التاريخ وتوجيهه نحو المثل الأعلى. ونهاية التاريخ عند الصدر الشهيد تعني نهاية الدورة للحضارة الغربية، وهي نهاية ملازمة لمحدودية النسق المعرفي الوضعي الذي استنفد طاقاته، ونتيجة لذلك فإن الانظمة السياسية المؤسسة على الفلسفة الوضعية قد وصلت إِلى نقطة النهاية، ويكمن البديل في المشروع الحضاري الإسلامي المرتبط بالغيب، والتاريخ لم ينته اذن بالنسبة للعالم الإسلامي؛ لأنه لم يدخل في التاريخ بعدُ، أو هو في بدايات دخوله. فالأُمة الإسلامية قد أُدخلت في تاريخ غير تاريخها منذ القرن التاسع عشر المسمّى بعصر النهضة، أُدخلت في تاريخ الغرب، فنهاية التاريخ ليست صحيحة معرفياً وإسلامياً.

فاطروحة نهاية التاريخ التي يتبناها فرنسيس فوكوياما Francis Fukuyama واطروحة ومقولة (شعب الله المختار) أو (الشعب السعيد)، التي يتبناها هيجل Hegel وماركس Marx، ليست الا اطروحات ظرفية يجابه بها الفكر الغربي الأُمة الإسلامية كمرجعية حضارية ذات تاريخ كبير يخشاه الغرب، فالحضارة الإسلامية- وخاصة في السنوات الاخيرة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران- بأن الحضارة الوحيدة التي تجابهها هي الحضارة الإسلامية([99]).

ان الرؤية الإسلامية للتاريخ، كما طرحها الصدر الشهيد، تنظر إِلى الحاضر من خلال التطلع إِلى المستقبل؛ لأنَّ التطلع في المنظور الإسلامي قوة لا تنفد بحكم ارتباط إنسان العالم الإسلامي بالمطلق، وان مفهوم الأُمة في نظر الشهيد الصدر من حيث هو نموذج حضاري مفتوح لكل الشعوب والحضارات، وهذا ما يجعل الأُمة في تحقق مستمر وفي ديمومة تحررها من اوهام المدن الفاضلة، ومن غطرسة الحضارات المستكبرة الملغية للشعوب([100]).

واخيراً. فإنَّ الشهيد الصدر لم يكتفِ بتنظير الرؤية الإسلامية إِلى التاريخ، بل عاش هذه الرؤية وتحرر من ثقل الواقع الفاسد، ومن حركة التاريخ المفروضة من طرف السلطة في العراق، ومن ظرف الفكر الغربي، وقدّم البديل الإسلامي، نظرياً بكتاباته، وعملياً باستشهاده، رحمة الله عليه وقد خط بيمينه قوله:

(ان الشعب الإيراني المسلم إيماناً برسالته التاريخية العظيمة التي بناها الإسلام، وبالخميني القائد، استطاع ان يكسِّر ثقل القيود، ويحطِّم عن معصميه تلك السلاسل الهائلة، فلم يعد الإسلام هو الرسالة فحسب، بل هو ايضاً المنقذ والقوة الوحيدة في الميدان التي استطاعت ان تكتب النصر لهذا الشعب العظيم… والشعب الإيراني يطرح نفسه لا كشعب يحاول بناء نفسه فحسب، بل كقاعدة للإشعاع على العالم الإسلامي وعلى العالم كلِّه في لحظات عصيبة من تاريخ هذه الإنسانية، يتلّفت فيها كلّ شعوب العالم الإسلامي إِلى المنقذ من هيمنة  الإنسان الاوروبي والغربي وحضارته المستغلِة، ويتحسَّس فيها كل شعوب العالم بالحاجة إِلى رسالة تضع حداً لاستغلال الإنسان للإنسان)([101]).

المطلب الثالث: المجتمع الصالح

يعد المجتمع الصالح نهاية سعي وجهاد الانبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين والقادة المصلحين، ليكون وسيلة ومقدمة لتحقيق رضا الله تعالى وهي الغاية القصوى التي يبتغيها ويتطلع اليها قادة الاصلاح؛ لتحقيق ارادة الله في ارضه، باستخلافه لعباده الصالحين المخلصين، كيف لا؟ وكل إنسان يدعو في صلواته ويردد ويطلب من الله تعالى طريق الهداية مخاطباً خالقه العظيم (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)([102])، هذا الطريق الذي لا اعوجاج ولا زيغ فيه، وهو طريق القرآن، والإسلام، والانبياء، والرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والائمة (عليهم السلام)([103]).

وهو طريق التوحيد بعقيدته ومفاهيمه، ونكمل تكرير طلبنا ودعائنا بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ([104]) والتي ذكرت مجملة في فاتحة الكتاب ليأتي تفصيلها في سورة النساء بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ([105])، إِذْ تشير هذه الآية المباركة إِلى مراحل بناء المجتمع المتطور المؤمن عبر مراحله الاربعة، إِذْ تمثل المرحلة الاولى: مرحلة نهوض الانبياء بدعوتهم الالهية، وتمثل المرحلة الثانية: مرحلة نشاط الصديقين، الذين تنسجم اقوالهم مع أفعالهم، بتصديق دعوة الانبياء التوحيدية ونشرها.

وتأتي المرحلة الثالثة: مرحلة الشهداء، الذي صدّقوا دعوة الانبياء، وبدأوا معهم طريق الجهاد والكفاح والمواجهة مع اعداء التوحيد، ومع كل العناصر المضادة والخبيثة في المجتمع لتصل المواجهة إِلى بذل الارواح وترخيص الدماء وتقديم الشهداء من اجل ارواء شجرة التوحيد وديمومتها. ومن ثم تأتي المرحلة الرابعة: وهي مرحلة ظهور “الصالحين” في مجتمع طاهر ينعم بالقيم والمثل الإنسانية باعتباره نتيجة للمساعي والجهود المبذولة التي صرفت على مسار خط المواجهة بين الخط التوحيدي والخط الفرعوني([106]).

ويأتي هذا المجتمع الصالح تحقيقاً لوعد الله تعالى لعباده بقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}([107]).

(وعدناكم ذلك وعداً حقاً علينا ان نوفي بما وعدنا، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس، لأنه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله، على يقين بأن ذلك كائن، واستعدوا وتأهبوا)([108])؛ وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([109]).

هذا المجتمع التوحيدي الذي يعيش في كنف الدولة التوحيدية والتي تسعى لإقامة العدل والاحسان بين الناس، ونشر المعروف والاصلاح بينهم، ورعاية الحرمات والكرامات الإنسانية، وايجاد التوازن في العلاقات الاجتماعية والإنسانية والطبيعية، من اجل الوصول إِلى الكمالات الالهية([110]).

ويرى الشهيد الصدر (قدس) ان مرحلة التشتت والاختلاف التي عاشتها الأُمة وبعث الله تعالى على اثر ذلك النبين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و(ليؤسسوا المجتمع الصالح الذي تظهر فيه مرة أُخرى الفضيلة والاستقامة، ويبدو واضحاً التوازن الاجتماعي وتكافؤ الفرص، ويذوب كل تفاضل بين الناس، وكل تمايز الاّ في العمل الصالح المعطاء الذي ليس فيه أنانية، ولا طمع، ولا استغلال وظلم، في هذا المجتمع إضافة إِلى الحياة الكريمة، والعيش الرغيد كمطلب ثانٍ، هناك الهدف الأساس من أيجاده وهو وجود الفرصة لكل إنسان أن ينمو بفكره ونفسه صعوداً وارتقاء حتى يناطح السماء سمواً وارتفاعاً في عقله، وخلقه وسلوكه، والذي يحقق له ولمجتمعه أمرين الأهم هو رضوان الله تعالى ونعيم الابد، والثاني وهو المهم نعمة الله تعالى في الدنيا وبركاته)([111]).

وان مسار التاريخ وصراع الحضارات المادية وانحسار قوتها وتناقضاتها في الداخل والخارج، وبروز خط الإسلام الثوري والمقاوم كقوة على السطح وغيرها من العوامل والأسباب كلها مقدمات وارهاصات لتحقيق الوعد الالهي الذي وعده لعباده الصالحين والذي نعيشه، ونهفوا اليه، وينبغي ان نعمل ونستفرغ الوسع من اجل تحقيق مقدماته، ونبذل الغالي والنفيس من أجل حصوله والوصول اليه، لنوطئ الارض لمصلحها الأكبر، والذي سيملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، كما جاء في أحاديث المدرستين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لو لم يبقَ من الدنيا الاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو (من أهل بيتي) يواطئ إسمه إسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)([112])، وعلينا التأكيد ان نهاية مسار حركة الانبياء وغايتهم هي انشاء دولة الحق والعدل الالهي وتحقيق المجتمع الصالح الذي سيضطلع بدوره لخلافة الارض وتعبيدها لتحقيق رضا الله تعالى، كما قال علي (عليه السلام): (اللهم إنَّك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لِنَرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلدك، فيأمن المظلمون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك)([113]).

 

النتائج:

اولاً: يُعد المجتمع التوحيدي (قبال المجتمع الفرعوني) إفرازاً ومنتجاً وقمة هرم عن دولة توحيدية قعِّدت على دعائم أساسية لبنائها، إِذْ كانت عقيدة الاستخلاف التوحيدية هي الأساس والمنطلق الذي شيِّدت عليه ثورة الانبياء التوحيدية، والتي انبثقت عنها مقوماتها في الحرية، والتنمية الاقتصادية، والعدل الاجتماعي في إحقاق الحق وايجاد التوازن في الأُمة؛ ليكون مسار حركة التاريخ في خط الدولة التوحيدي هو العلة الغائية لأنشائها، والذي يروم التحرك دوماً نحو المستقبل والمطلق ، من اجل تحقيق المجتمع الصالح الذي وعد الله به عباده الصالحين لاستخلافهم بوراثة أرضه؛ ليسوس العدل في عباده، وتسَّخر مخلوقات الله كلها من أجلهم.

ثانياً: ان كل دولة تعتمد على عقيدة تعدُّ الأساس لتشييد البناء الفوقاني، وفي دولة المجتمع الصالح اعتمدت عقيدة التوحيد كمرتكز جوهري ومحوري لبناء الدولة، لتؤكد اصالتها ومفاهيمها من القرآن الكريم والسُنَّة المطهرة؛ ليكون الإسلام منطلقاً بأفكاره وعواطفه متبنيات العقيدة وفلسفتها عن الكون والحياة؛ ليكون العمل الصالح والتقوى هما المائزان في ميزان الكرامة الإنسانية دون غيرهما، وهذا هو المائز بين مدرسة عقيدة التوحيد عن غيرها من المدارس والنظم الوضعية.

ثالثاً: اكدت الدراسة على ان الإنسان هو العلة الغائية من الخلق؛ لأنه المستعد على قبول الامانة وتحملها، وهو المهيأ للإستخلاف في الارض لتحقيق ارادة الله وشرعته، دون سائر المخلوقات؛ لهذا هيأ الله تعالى له كل أسباب القوة والمنَعَة لإتمام مهمته، وقد اهتم الإسلام وبالغ في تربيته وإعداده ليكون الأجدر على تحمل المسؤولية والدفاع عنها.

رابعاً: بينّت الدراسة على دور الانبياء واصطفائهم على حمل رسالة التوحيد والدعوة لنشرها وهدي الناس اليها، ومقارعة الطواغيت واصحاب المنافع والمصالح الدنيوية ومن يقف معهم ويساندهم من جهلة القوم ومعانديهم، وتأتي ثورة الانبياء التصحيحية حيناً والتغييرية حيناً اخر من اجل التأكيد على صناعة الإنسان وإعداده وتهيئته في تشييد دعائم المجتمع الصالح التوحيدي، كما ان ثورة الانبياء اهتمت بانتزاع الظلم الخارجي الطاغوتي ولوازمه وهو المهم، اهتمت كذلك بانتزاع الظلم الداخلي واقتلاع جذوره من اعماق النفوس البشرية وهو الاهم؛ ولهذا كانت ثورة الانبياء والمصلحين شاقة ومضنية وطويلة؛ لأنها تمثل صراعاً بين جبهتي الحق والباطل.

خامساً: اشارت الدراسة على ان بناء الدولة التوحيدية يتقوم باربعة اركان يجب توافرها، على ان يكون المبدأ الصالح مرتكزها الأوَّل، والقائد المصلح مرتكزها الثاني، والانصار المصلحون مرتكزها الثالث، لتأتي البيئة الصالحة لتكون المرتكز الرابع، وان نجاح المصلحين أو فشلهم يتناسب طردياً أو عكسياً مع مدى استجابة أو نفور البيئة والمحيط الاجتماعي الذي تتحرك فيه عملية الاصلاح بعواملها وأركانها جميعاً، فمتى ما توافرت هذه الاركان كان عمل الانبياء والمصلحين ناجعاً بتشييد دولتهم، كما حدث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ارساء دعائم دولته في المدينة المنورة، ومتى ما تخلف ركن من هذه الاركان الاربعة تعذر انشاء الدولة، كما حدث مع نبي الله نوح (عليه السلام)، لأنَّ البيئة والمحيط لم تكن قابلة ومستعدة لقبول دعوة المصلح الحق ورسالته؛ ولهذا تعذر (عليه السلام) في هدايتهم.

سادساً: توصلنا في بحثنا أن هناك واجبات ومقومات ينبغي للدولة التوحيدية توفيرها، وتأتي الحرية على رأسها، وبينّا أن الحرية في الدولة التوحيدية توثيق واندكاك في الخالق المطلق؛ لأنه مصدر السلطات جميعاً، وهذا يعني ان الإنسان حر، ولا سيادة لإنسان على آخر، أو لطبقة، أو لمجموعة بشرية عليه، وانما السيادة لله وحده، من هنا كان التوحيد أساساً وغاية في النظام الإسلامي، إِذْ الإسلام يهدف إِلى تحرير الإنسان من الاغلال التي تشدّه وتجذبه إِلى الارض، ويريد الإسلام منه السمو والرفعة نحو السماء؛ لأنَّ التوحيد عند الإسلام هو سند الإنسانية في تحررها الداخلي من كل العبوديات، وفي كل المجالات؛ ولهذا كانت الحرية في دولة التوحيد مقيدة بأن لا تتجاوز حدود الله، ولا حدود الاخرين، عكس الحرية في غير دولة التوحيد التي اطلقت العنان للحرية في إطارها العام وفي كل المستويات، دون ان تفكر في المحتوى والمضمون، مما ادى بسببها إِلى شيوع الخراب والدمار والحروب واستغلال موارد الغير واستعبادهم، وانتشار الفساد والرذيلة ومحاربة الفطرة وغيرها كل ذلك بسبب اطلاق العنان للحرية المطلقة.

سابعاً: ويأتي دور التنمية كمفهوم اخر في دولة التوحيد، ومعلوم ان التجارب الإنسانية لا يمكن استنساخها بكل ظروفها وملابساتها من بلد إِلى آخر؛ لأختلاف الظروف والعادات والتقاليد والعوامل الموضوعية والظروف الضاغطة؛ لهذا علينا الافادة من تجارب الاخرين في تنميتهم الاقتصادية وغيرها وتكييفها مع متطلبات واقعنا ومجتمعنا التوحيدي ورؤيتنا الخاصة للإنسان والعالم، وفق منهاج الاقتصاد التوحيدي القائم على أسس عقدية، ومفاهيم إسلامية منسجمة مع الفطرة من جهة، ومع الواقع من جهة أُخرى، مثل هذا المنهج بنظر الشهيد الصدر يُشكل إطاراً صالحاً للتنمية في العالم الإسلامي، وينسجم مع الذاكرة التاريخية للأُمة ليحفزها ولكي تتفاعل معه.

ثامناً: ويأتي دور العدل الاجتماعي كمقوِّم آخر للدولة التوحيدية؛ لأنَّ العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية ويغنيها، وهي بأمس الحاجة اليه، لهذا كان العدل بنظر الشهيد الصدر له مدلول توجيهي وتربوي للمسيرة البشرية ويتحرك ضمن الإطار التوحيدي والمثل الأعلى فيه، إِذْ نلاحظ أن العدل الذي قامت على أساسه مسؤوليات الجماعة في خلافتها العامة هو الوجه الاجتماعي للعدل الالهي الذي نادى به الانبياء، وأكدت عليه رسالات السماء، واصبح الاصل الثاني من أصول الدين بعد التوحيد مباشرة لأهمية مدلوله الاجتماعي وارتباطه العميق به، فالعدل اجتماعياً بنظر الشهيد الصدر يعني: ان المالك هو الله دون غيره من الالهة المزيفة بلا تمييز بين فرد وآخر، ولا يمنح لفئة على حساب فئة، بل يعم الجماعة الصالحة ككل مع ما وفّر من نعم وثروات.

تاسعاً: بينّت الدراسة على اهمية المقوم الرابع المفرز عن الدولة وهو مسار التاريخ في حركة التوحيد والذي يمثل حركة غائية لا سببية فقط، حركة ليست مشدودة إِلى سببها وماضيها، بل مشدودة إِلى غايتها وهدفها وهي متطلعة إِلى المستقبل المحرك لأي نشاط من نشاطات التاريخ، حيث يرى الشهيد الصدر ان خلافة الإنسان لله في الارض تفتح الباب لصيرورة نحو المطلق والتوحيد، وهو الله تعالى، بينما النظرة الفلسفية للماديين امثال فرنسيس فوكوياما، وماركس وغيرهم، محاولة تقوم من الناحية المنهجية والمعرفية والعقائدية نحو الشرك، وباختصار ان النظرة الغربية للتفسير المادي للتاريخ تفصل بين وجود الإنسان عن الله تعالى، بينما النظرة الإسلامية تربط بين الإنسان وخالقه، ليكون الإنسان مهيئً وعاملاً لتحقيق المجتمع الصالح.

عاشراً: وخلصت الدراسة إِلى نتيجة وهي: أن اجتماع الحرية، والتنمية، والعدالة الاجتماعية مع مسار حركة التاريخ، مقومات يترشح عنها المجتمع الصالح الذي وعد الله تعالى به عباده الصالحين؛ ليكون بعد حصيلة تجارب ومعاناة انبياء وأئمة ومصلحين قعدَّوا دولتهم على عقيدة التوحيد التي دأبت دوماً على تغيير أنفس الناس وتهذيب بواطنهم؛ ليكونوا قادرين على حمل الامانة الإلهية، ليجسِّدوا إرادة الله في أرضه، بعد ان نهلوا من عطاء الإسلام من خلال قرآنه وسنته، ليستنبطو أفكاراً ومفاهيم تتمازج مع عاطفتهم المتزنة بإحساسها وأحاسيسها لترتبط بالسماء، وبعد تمازج فكر الناس وعواطفهم تأتي ولادة سلوكهم الإسلامي والتوحيدي ليكونوا المثل الأعلى المستمر والمتقدم نحو المطلق دوماً؛ ليكون الإنسان منهم خليفة الله في أرضه والمتخلق بأخلاق الله، والمقتدي والمتأسي برسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، والدعاة المصلحين، إِلى يوم الدين.

 

 

 

 

 

([1]) سورة القصص، الآية: 5.

([2]) سورة الانبياء، الآية: 105.

([3]) لسان العرب، ابن منظور: 12/ 420.

([4]) اخرجه ابن ماجه في سننه، باب الايمان: 1/ 24، ح: 63 (حديث صحيح صححه الالباني)، يُنظر: احياء علوم الدين للغزالي: 2/357.

([5]) يُنظر: بناء الإنسان، حسن عبد الرزاق منصور، ص187؛ موسوعة كله لك https://wikikolok.com.

([6]) كتاب التعريفات، الجرجاني: 1/ 69.

([7]) سورة الحجرات، الآية: 13.

([8]) إقتصادنا، محمد باقر الصدر، ص 338- 339.

([9]) يُنظر: منهج الشهيد محمد باقر الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، د. عبد الجبار الرفاعي، ص173- 174.

([10]) سورة البقرة، الآية: 30.

([11]) سورة الاحزاب، الآية: 72.

([12]) سورة الجاثية، الآية: 12-13.

([13]) سورة الاعراف، الآية: 96.

([14]) يُنظر: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم، محمد باقر الحكيم، ص 23- 24.

([15]) سورة البقرة، الآية: 30.

([16]) سورة البقرة، الآية: 30.

([17]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 106.

([18]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 109.

([19]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر ، ص 108.

([20]) يُنظر: منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، د. عبد الجبار الرفاعي، ص 176.

([21]) سورة طه، الآية: 118- 119.

([22]) يُنظر: الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر (قدس)، ص 143- 144.

([23]) سورة يونس، الآية: 19

([24]) سورة البقرة، الآية: 213.

([25]) مجمع البيان، الطبرسي: 2/ 65.

([26]) سورة الروم، الآية: 30- 32.

([27]) يُنظر: الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر: ص 45.

([28]) سورة البقرة، الآية: 213.

([29]) الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر: ص 146.

([30]) سورة القصص، الآية: 5.

([31]) يُنظر: الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر: ص 149؛ منهج الشهيد محمد باقر الصدر، د. عبد الجبار الرفاعي: ص 176.

([32]) يُنظر: الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر: ص 27-28.

([33]) سورة الرعد، الآية: 11.

([34]) معاني الاخبار، الشيخ الصدوق: ص 160.

([35]) يُنظر: الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر: ص160.

([36]) سورة سبأ: الآية: 34.

([37]) سورة الزخرف، الآية: 23.

([38]) الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر، ص 151- 152.

([39]) يُنظر: نظرية الاصلاح في النهضة الحسينية، د. حميد علي راضي الدهلكي، ص 645- 467.

([40]) سورة البقرة، الآية: 213.

([41]) المجتمع الفرعوني، محمد باقر الصدر، اعداد: محمد علي امين، ص 13.

([42]) سورة البقرة، الآية: 213.

([43]) الإسلام يقود الحياة، لمحة يقود الحياة، لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، محمد باقر الصدر: ص14- 15.

([44]) الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر: ص 169.

([45]) سورة التوبة، الآية: 31.

([46]) يُنظر: منهج الشهيد محمد باقر الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، د. عبد الجبار الرفاعي: ص 178.

([47]) سورة البقرة، الآية: 138.

([48]) سورة يوسف: الآية: 39.

([49]) يُنظر: الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر، ص 128- 129.

([50]) سورة الجاثية، الآية: 23.

([51]) جامع البيان في تاويل القرآن، الطبري: 22/75.

([52]) يُنظر: اقتصادنا، محمد باقر الصدر، ص 337- 338.

([53]) سورة البقرة، الآية: 29.

([54]) سورة ال عمران، الآية: 64.

([55]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر: ص 358- 359.

([56]) لمحة تمهيدية عن مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران، محمد باقر الصدر: ص 25.

([57]) يُنظر، فلسفة الصدر، محمد عبد اللاوي، ص 74- 75.

([58]) المدرسة الإسلامية، محمد باقر الصدر: ص 116.

([59]) سورة فصلت، الآية: 53.

([60]) سورة العنكبوت، الآية: 20.

([61]) المدرسة الإسلامية، الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية، محمد باقر الصدر: ص 106- 107.

([62]) المصدر نفسه: ص 95- 96.

([63]) فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص29.

([64]) Anthropology: وهو مصطلح مشتق من كلمتين يونانيتين هما: انثروبوس Anthropos وتعني الإنسان، ولوغوس Logos وتعني الدراسة، وبذلك يكون معنى الانثروبولوجيا هو دراسة الإنسان، أو علم الإنسان، ويدرس هذا العلم البشر بماضيهم وحاضرهم ليفهم الكيانات الهائلة والمعقدة من الثقافات عبر التاريخ، وتُبني الانثروبولجيا وتتحرك على القواعد المعرفية التي تقوم عليها العلوم البيولوجية والاجتماعية.. https://mawdoo3.com.

([65]) يُنظر: منهج الشهيد محمد باقر الصدر، د. عبد الجبار الرفاعي، ص 183- 184.

([66]) إقتصادنا، محمد باقر الصدر، ص 21.

([67]) إقتصادنا، محمد باقر الصدر ، ص 21- 22.

([68]) المصدر نفسه، ص 24.

([69]) إقتصادنا، محمد باقر الصدر ، ص31؛ الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر، ص 192.

([70])امثال اقتصادنا/ مقدمة الطبعة الثانية، ص 7-25؛ الإسلام يقوم الحياة/ منابع القوة في الدولة الإسلامية ص 192؛ المدرسة القرآنية، ص158، 163، 166، 168، 183.

([71]) المدرسة القرآنية ، محمد باقر الصدر، ص 154.

([72]) الإسلام يقود الحياة، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، محمد باقر الصدر، ص 38.

([73])الإسلام يقود الحياة، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، محمد باقر الصدر ، ص 38- 39، ص 145.

([74]) المصدر نفسه، ص 34، ص142.

([75]) اقتصادنا، محمد باقر الصدر، ص 331.

([76]) يُنظر: المجتمع الإنساني في القرآن الكريم، محمد باقر الحكيم، ص 461.

([77]) سورة الحديد، الآية: 25.

([78]) سورة المائدة، الآية: 42.

([79]) يُنظر: المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 115- 116.

([80]) يُنظر: فلسفة الصدر، د. محمد عبد اللاوي ، ص 93- 97.

([81]) فلسفة الصدر، د. محمد عبد اللاوي ، ص 97.

([82]) المصدر نفسه، ص 447.

([83]) يُنظر: فلسفة الصدر، د. محمد عبد اللاوي، ص 448؛ يُنظر: بحوث إسلامية، محمد باقر الصدر، ص 160- 165.

([84]) سورة الرعد، الآية: 11.

([85]) يُنظر: المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 118، 121، 124، 126.

([86]) الكافي، الكليني، كتاب الجهاد، باب وجوه الجهاد؛ 5/12، ح: 3.

([87]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 119- 120.

([88]) يُنظر، المصدر السابق، ص 120.

([89]) سورة الفرقان: الآية: 43.

([90]) يُنظر: المصدر السابق، ص 120- 121.

([91]) سورة البقرة، الآية: 17.

([92]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر: 170.

([93]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر: ص 133.

([94])المصدر نفسه: 124- 126 ، 133- 135.

([95]) سورة الانشقاق، الآية: 6.

([96]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 144.

([97]) سورة الاحزاب, الآية: 21.

([98]) يُنظر: تفسير، الطبري، ابو جعفر الطبري، 20/235.

([99]) يُنظر: فلسفة الصدر، محمد عبد اللاوي، ص 465.

([100]) يُنظر: فلسفة الصدر، محمد عبد اللاوي ، ص 97- 98.

([101]) المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ص 16.

([102]) سورة الفاتحة، الآية.: 6.

([103]) يُنظر: تفسير الأمثل، ناصر مكارم شيرازي: 1/ 45- 46.

([104]) سورة الفاتحة، الآية: 6.

([105]) سورة النساء، الآية: 69.

([106]) يُنظر: تفسير الأمثل، ناصر مكارم شيرازي: 1/ 47.

([107]) سورة الانبياء، الآية: 105.

([108]) تفسير الطبري، ابو جعفر الطبري: 18/ 547.

([109]) سورة القصص، الآية: 5.

([110]) يُنظر: المجمع الإنساني في القرآن الكريم، محمد باقر الحكيم، ص 461.

([111]) المجتمع الفرعوني، دراسة موضوعية في المذهب الاجتماعي التاريخي مستوحاة من محاضرات القاها السيد محمد باقر الصدر (قدس)، إعداد، محمد علي امين، ص 13.

([112]) أخرجه، ابو داود في سننه، كتاب المهدي، 4/ 106، ج: 4282 ، وصححه الألباني.

([113]) شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد المعتزلي: 8/ 380.

المصادر

  1. احياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت: 505هـ)، دار المعرفة، بيروت، لبنان، (د. ت).
  2. الإسلام يقود الحياة، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، شركة العارف للمطبوعات، مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس)، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1433هـ – 2012م.
  3. الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، شركة العارف للمطبوعات، مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس)، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1433هـ – 2012م.
  4. الإسلام يقود الحياة، محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، وزارة الارشاد الإسلامي اللجنة التحضيرية للمؤتمر العلمي لائمة الجمعة والجماعة، طهران- إيران، الطبعة الثانية، 1403هـ.
  5. اقتصادنا، محمد باقر الصدر، (ت: 1400هـ)، شركة العارف للمطبوعات، مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1433هـ – 2012م.
  6. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، دار احياء التراث العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية، 1426هـ -2005م.
  7. بحوث إسلامية، محمد باقر الصدر، دار الزهراء، بيروت- لبنان، 1975م.
  8. بناء الإنسان، حسن عبد الرزاق منصور، أمواج للنشر، عمان- الاردن، الطبعة الثانية،
  9. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة- القاهرة، الطبعة الاولى، 1997م.
  10. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (ت: 1376هـ)، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة: الطبعه الاولى، 1420هـ- 2000م.
  11. جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (ت: 310هـ)، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة: (د. ت)، الطبعة الاولى، 1420هـ – 2000م.
  12. سنن أبي داود سليمان بن الاشعت بن اسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الازدي السجستاني (ت: 275هـ)، المحقق: محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا- لبنان.
  13. شرح نهج البلاغة- ابو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي، (ت: 656هـ)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى: 1415هـ- 1995م.
  14. فلسفة الصدر، دراسات في المدرسة الفكرية للامام الشهيد محمد باقر الصدر، د. محمد عبد اللاوي، جامعة وهران- الجزائر، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية، 1422هـ – 2001م.
  15. فلسفتنا، محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، شركة العارف للمطبوعات، مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس)، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1433هـ – 2012م.
  16. الكافي، محمود بن يعقوب الكليني الرازي (ت: 329هـ)، تصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران- إيران، الطبعة الثالثة، 1998م.
  17. كتاب التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (ت: 816هـ)، تحقيق جماعة من العلماء باشراف الناشر: دار الكتب العالمية، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1403هـ- 1983م.
  18. لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الانصاري الرويفعي (ت: 711هـ)، دار صادر، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة، 1414هـ.
  19. لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، محمد باقر الصدر، شركة العارف للمطبوعات، مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس)، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1433هـ – 2012م.
  20. المجتمع الإنساني في القرآن الكريم، محمد باقر الحكيم، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، النجف الاشرف- العراق، الطبعة الثانية، 2006م.
  21. المجتمع الفرعوني، إعداد: محمد علي أمين، مكتبة دار المجتبى، النجف الاشرف- العراق، طبع عام 1424هـ.
  22. مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري، حققه: لجنة من العلماء والمحققين الاخصائيين، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1415هـ – 1995م.
  23. المدرسة الإسلامية، محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، دار الكتاب الإيراني، طهران- إيران، طبع عام 1984م.
  24. المدرسة الإسلامية، محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، شركة العارف للمطبوعات، مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس)، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1433هـ – 2012م.
  25. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر (ت: 1400هـ)، شركة العارف للمطبوعات، مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس)، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى، 1433هـ – 2012م.
  26. مسند الإمام احمد بن حنبل، أبو عبد الله احمد بن محمد بن هلال بن أسد الشيباني (ت: 241هـ)، المحقق: شعيب الارنؤوط- عادل مرشد وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الاولى، 1421هـ – 2001م.
  27. معاني الاخبار، أبو جعفر محمد بن علي بن بابوية القمي المعروف بالشيخ الصدوق (ت: 381هـ)، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، قم- إيران، 1379هـ.
  28. منهج الشهيد محمد باقر الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، د. عبد الجبار الرفاعي، مؤسسة المثقف العربي، سيدني- استراليا، الطبعة الاولى، 2012م.
  29. نظرية الاصلاح في النهضة الحسينية، د. حميد على راضي الدهلكي، شركة العارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، العراق- النجف الاشرف، الطبعة الاولى، 2020م.

مؤسسة دار الإسلام الثقافية الخيرية